الإغلاق العام الكبير بعدسة عالمية «1 من 2»
من المتوقع أن يتطور "الإغلاق العام الكبير" على ثلاث مراحل، أولها دخول الدول في طور الإغلاق العام، ثم خروجها منه، وأخيرا إفلاتها منه عند اكتشاف حل طبي للجائحة. وهناك دول كثيرة تمر بالمرحلة الثانية حاليا، حيث تعيد فتح نشاطها الاقتصادي، مع وجود دلائل مبكرة تشير إلى التعافي، وإن كانت معرضة لمخاطر موجة ثانية من العدوى قد تضطرها لإعادة فرض الإغلاق العام من جديد. وبإجراء مسح للمشهد الاقتصادي، نجده مشهدا مذهلا بمجرد النظر إلى نطاق "الإغلاق العام العالمي" ودرجة حدته. والأكثر مأساوية في هذا الصدد أن الجائحة أزهقت بالفعل مئات الآلاف من الأرواح على مستوى العالم. وأسفر ذلك عن أزمة اقتصادية لم يشهد العالم مثلها من قبل.
إنها أزمة عالمية بحق. فالأزمات السابقة، رغم عمقها وحدتها، ظلت محصورة في أجزاء أصغر من العالم، من أمريكا اللاتينية في الثمانينيات إلى آسيا في التسعينيات. وحتى الأزمة المالية العالمية منذ عشرة أعوام كانت آثارها أكثر تواضعا في الناتج العالمي.
ولأول مرة منذ "الكساد الكبير"، ستكون الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة في حالة ركود متزامن في 2020. ومن المرجح أن يشير العدد المقبل من تقرير مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي إلى معدلات نمو سلبية أسوأ من التقديرات السابقة. وستكون لهذه الأزمة عواقب مدمرة على فقراء العالم.
وبخلاف النطاق غير المسبوق الذي يشمله الإغلاق العام العالمي، نجده يتطور بطرق مختلفة تماما عما شاهدناه في الأزمات السابقة. وتظهر هذه الخصائص غير المألوفة في كل أنحاء العالم، بغض النظر عن حجم الاقتصاد أو موقعه الجغرافي أو هيكل إنتاجه.
أولا، وجهت هذه الأزمة ضربة قوية على نحو غير مسبوق لقطاع الخدمات. ففي الأزمات المعتادة، يكون الأثر الأكبر في الصناعة التحويلية نتيجة لانخفاض الاستثمار، بينما يكون الأثر في الخدمات منخفضا بوجه عام لأن الطلب الاستهلاكي يكون أقل تأثرا. لكن الأمر مختلف هذه المرة. ففي شهور ذروة الإغلاق العام، كان انكماش قطاع الخدمات أكبر حتى من انكماش قطاع الصناعة التحويلية، ودون فرق في ذلك بين الاقتصادات المتقدمة عن اقتصادات الأسواق الصاعدة. وهناك استثناءات من هذه القاعدة، مثل السويد ومقاطعة تايوان الصينية اللتين اعتمدتا نهجا مختلفا في التعامل مع الأزمة الصحية، مع إجراءات احتواء محدودة من جانب الحكومة، ما جعل الضربة الواقعة على قطاع الخدمات أقل منها في قطاع الصناعة التحويلية.
ومن الممكن، في ظل الطلب الاستهلاكي المكبوح، أن يحدث تعاف بوتيرة أسرع على خلاف ما حدث عقب الأزمات السابقة. غير أن هذه النتيجة غير مضمونة في الأزمات الصحية، لأن المستهلكين قد يغيرون سلوكهم الإنفاقي للحد من الاحتكاك الاجتماعي، وعدم اليقين يمكن أن يدفعهم إلى زيادة الادخار. وفي حالة الصين، وهي من أوائل الدول التي خرجت من مرحلة الإغلاق العام، هناك تأخر في تعافي قطاع الخدمات مقارنة بالصناعة التحويلية، لأن الخدمات مثل الضيافة والسفر تعاني في سعيها لاستعادة الطلب. ومن بواعث القلق بوجه خاص الأثر طويل الأجل في الاقتصادات التي تعتمد كثيرا على الخدمات، كالاقتصادات المعتمدة على السياحة.
ثانيا، رغم صدمات العرض الكبيرة التي تنفرد بها هذه الأزمة، ففيما عدا تضخم أسعار الغذاء، لم نر حتى الآن إلا انخفاضا في معدل التضخم والتوقعات المتعلقة به، وذلك بصورة تكاد تكون شاملة لكل من الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة. ورغم الحجم الكبير للدعم التقليدي وغير التقليدي من السياسة النقدية وسياسة المالية العامة في كل دول العالم، فإن الطلب الكلي لا يزال مكبوحا ويشكل عبئا على التضخم، إلى جانب انخفاض أسعار السلع الأولية. ونظرا لارتفاع البطالة الذي يتوقع أن يستمر لفترة، يرجح أن تكون مخاطر تصاعد التضخم ضئيلة في الدول التي تتسم بمصداقية سياساتها النقدية.
ثالثا، نرى أن الأسواق المالية تتباعد عن الاقتصاد العيني على نحو لافت للنظر، حيث تنم المؤشرات المالية عن آفاق تعاف أقوى مما يشير إليه النشاط العيني. فرغم التصحيح الذي حدث أخيرا، عوض مؤشر ستاندرد آند بورز 500 معظم الخسائر التي سجلها منذ بداية الأزمة، وحدث تحسن كبير في مؤشر فوتسي للأسواق الصاعدة ومؤشر إفريقيا... يتبع.