اللغة حابسة حارسة
منذ انطلاق الإجراءات الوقائية والاحترازية، وفي نفسي شيء من مصطلح "التباعد الاجتماعي"، أولا، لأنه ترجمة حرفية لمستورد، وثانيا، لأنني أراه مخلا بالفكرة العملية منه. فكرة "الحراسة" من العدوى - بإذن الله -، والفكرة النظرية وهي "حبس" نفسك عن هواها المتمثل في الاختلاط بالناس.
التأثيرات الصحية والاقتصادية نتابعها لحظة بلحظة، وفي المصطلحات التي برزت على السطح في كل مكان تقريبا، هناك تأثيرات ثقافية واجتماعية لا يمكن قياسها اليوم، لأنها في طور التشكل والتماهي اليومي معها يتم بين تصديق ما يحدث والمفاجآت المتوقعة منه.
ربما يكون مصطلح التباعد الجسدي هو الأفضل والأكثر قربا من الفكرة، أو ربما يكون الأكثر تأثيرا في أرض الواقع، والأسهل منه "الابتعاد بمسافة" لأن الجملتين تحققان المطلوب بدقة، ولا تثيران ما يثيره مصطلح " التباعد الاجتماعي" من الافتراضات، والتمايز بين داخل المنزل والمكتب وخارجهما، فضلا عن أن إرهاصات التباعد الاجتماعي تتزايد دون جائحة من منطلقات أخرى تكرسها العولمة، وزيادة النزعة الفردانية بين الناس، وتنامي الإحساس بالهوية الفردية.
عند كثير من العامة، ويدخل ضمنهم بالطبع العمالة قليلة المهارات، يعد المجتمع هو "الآخرين" أي ليس أفراد عائلته، أو أصدقاءه، أو حتى زملاءه في العمل، وهو بالطبع مفهوم خاطئ، لكن لو صعدنا بالدرجة الفكرية أو الذهنية درجات مختلفة سنجد أن مفهوم "المجتمع" يتباين عند كل مستوى، فيصبح بعض - ليس قليل - من الناس وهو يطبق التباعد الاجتماعي بناء على محدداته، فيحبس نفسه عن شرائح معينة، ولا يفعل مع أخرى، فيتأثر مستوى "حراسته" من العدوى.
التباعد الاجتماعي كمفهوم مطبق بشكل واضح وجلي في المدن الكبرى ومجتمعاتها المتسمة بسرعة إيقاعها اليومي وانشغالات الفرد فيها، التي قلصت من دائرة علاقاته وتواصله في الفضاء العام وصيرتها إلى فضاءاته الخاصة التي يرتضي منها ما شاء من تطبيقات ووسائل تواصل واتصال، يظهر فيها متى أراد وبالشكل الذي يريد، ويستتر متى احتاج إلى ذلك، يراقب من كثب أو يعتزل تبعا لأغراضه وحاجاته.
لا أطلب تغيير مطبوعات وملصقات التوعية، لكنني فقط أفكر في جانب اتصالي مؤثر هو واحد من جوانب عدة وزوايا سنتحدث عنها كثيرا، وأتمنى أن ندرس منها ما هو جدير بالدراسة، فالحصانة الثقافية الاجتماعية ربما تكون اليوم أقل أهمية من أخواتها الاقتصادية والصحية، لكن عند زوال الغمة ربما تكون الحاجة إليها مهمة، وربما لا.
من فضلكم، تباعدوا جسديا.. فقط