ازدهار الاقتصاد يتحقق بنجاح الصناعة

 لأننا نعيش اليوم في عصر المتناقضات الذي انقلبت فيه موازين الحق والباطل، تنهال لائمة الشعوب بشكل دائم ومثير على النظام العالمي الجديد، لتحمله كل مصيبة تقع فيها دول العالم. فبعد تأسيسه قبل ثلاثة عقود وفرضه على قريتنا الكونية، تطالب هذه الدول اليوم، بضرورة تحديث أحكامه وإعادة صياغة قواعده لتستطيع التعامل معه من خلال منظماته الدولية بطرق خلاقة وأساليب فاعلة تهدف في محصلتها النهائية إلى تحسين أدائها وتعظيم مكاسبها وحصد فوائدها. ولا غرابة في ذلك، فالحروب الباردة المستعرة تحتد اليوم تحت أنظار منظمة الأمم المتحدة دون حراك، والسياسات الحمائية الضارة ترتفع وتيرتها تحت أنظار منظمة التجارة العالمية دون سؤال، والديون السيادية تتفاقم قيمتها، لتفوق ثلاثة أضعاف الناتج العالمي الإجمالي تحت أنظار صندوق النقد والبنك الدوليين دون حساب، وفيروس كورونا يتفشى بين دول العالم تحت أنظار منظمة الصحة العالمية دون علاج، وتخلي بعض الدول عن مصالح شعوبها مقابل إنتاج أسلحتها المدمرة وتمويل أطماع ميليشياتها الإرهابية المنتشرة في دول الجوار، ما زال يتنامى تحت أنظار منظمات العفو الدولية وحقوق الإنسان دون عقاب. ومع ذلك، ما زالت هذه المنظمات تطالب دول العالم بضرورة تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الحقوق والواجبات، كونه أهم مبادئ التعايش السلمي بين الشعوب، إلا أننا نكتشف لاحقا أن هذا المبدأ هو مجرد حبر على ورق، وأن الحقوق لا تكتسب إلا بالقوة من أفواه الضعفاء. وتزداد الحيرة عندما تلزم هذه المنظمات بضرورة إنصاف المظلومين ومعاقبة الظالمين، لنفاجأ لاحقا أن قدر المظلوم مرهون بتنازله جهارا نهارا عن حقوقه، والرضوخ عنوة لمبادئ تحكيم العقل وتهدئة الأوضاع تحت سمع وأنظار هذه المنظمات. هذه المتناقضات لم تثن عزيمة الدول الصناعية الحريصة على مصالح شعوبها، بل دفعتها إلى استغلال عشوائيات هذه المنظمات والالتفاف على أحكامها لتطوير صناعاتها وتعظيم صادراتها، فاستأثرت بجدارة حق تصنيفها كدول متقدمة. بناء عليه، جاء ازدهار اقتصادات الدول الصناعية نتيجة حتمية لنجاح صناعتها وتنمية صادراتها. وتسابقت هذه الدول إلى تطبيق نظرية التجارة المتكاملة، حيث أضافت إلى مقومات منتجاتها الصناعية عناصر التقنية لتستفيد من المبدأ السائد في الأسواق العالمية الذي يعتمد على تفضيل التقنية في حال تساوي أسعار منتج صناعي محدد. وبهذا المبدأ، أصبحت التقنية الفاصل النهائي في قدرة هذا المنتج على غزو الأسواق بشكل أكبر. بهذه النظرية الخلاقة نجحت سويسرا التي لا تنتج جراما واحدا من نبات الكاكاو الذي يشكل 30 إلى 70 في المائة من مكونات الشوكولاتة، في شراء محاصيل الكاكاو المنتجة في إفريقيا واستخدام تقنياتها السويسرية وكفاءة مصانعها لإنتاج وتصدير أفضل أنواع الشوكولاتة والحلويات في العالم. كما نجحت بريطانيا التي لا تنتج جراما واحدا من نبات الشاي، في استغلال مزاياها الصناعية والتقنية والتسويقية لشراء محاصيل الشاي من الهند وسريلانكا لتصنيع أفضل منتجات الشاي في العالم، فأصبحت تمتلك 63 في المائة من حصة تسويق الشاي الإنجليزي في العالم. أما مصر وباكستان، اللتان تنتجان 41 في المائة من محاصيل القطن في العالم، فقد صارت تصدر للمصانع الأمريكية والأوروبية، لتمتلك هذه المصانع اليوم 68 في المائة من حصة الملابس القطنية في الأسواق العالمية، وتنخفض حصة مصر وباكستان إلى 3 في المائة فقط. نظرية التجارة المتكاملة منحت اليابان، التي تعتمد في تصنيع منتجاتها على 86 في المائة من المواد الأولية المستوردة، فرصة الاستفادة من تقنياتها المتقدمة ومصانعها المميزة لتصنيع متطلبات الأسواق العالمية، فتفوقت منتجاتها على مثيلاتها الأوروبية والأمريكية. وسارت في ركابها كوريا الجنوبية التي اختارت ثلاثة أهداف أساسية للوقوف في وجه المنافسة الصناعية اليابانية العاتية. كان الهدف الأول يرمي إلى إعادة هيكلة التعليم وتوجيه مخرجاته لتوطين العمالة الوطنية البارعة، فنجحت كوريا في إنشاء جيل من الخبراء والمهنيين والمصنعين، لتصبح خامس أكبر دولة في الصادرات الصناعية. وكان الهدف الثاني يرمي إلى توطين تقنية الصناعات الثقيلة التي تعتمد على الطاقة والمواد الأولية المستوردة، فأصبحت كوريا خلال عشرة أعوام رابع أفضل منتجي الحديد والصلب في العالم، وأنشأت أكبر الأحواض الجافة في جنوب وشرق آسيا لتصنيع وإصلاح السفن. أما الهدف الثالث، فتحقق بعد تحالف كوريا الجنوبية مع ماليزيا وتايلاند وسنغافورة لتصنيع عشرات الملايين من الحواسب الآلية كل عام لمدة عشرة أعوام، تلبية لقرار حكوماتها الهادف إلى تزويد طلاب المدارس بأحدث أجهزة الكمبيوتر. كان هذا القرار بمنزلة ضمان واضح للمصانع الوطنية لمشاركة المصانع العالمية في إنتاج أفضل أجهزة تقنية المعلومات، لتصبح هذه الدول ثالث أكبر منتج ومصدر في العالم لهذه الأجهزة وبرامجها المعلوماتية. نتائج قرارات هذه الدول الحاسمة كانت مبهرة حقا. في خلال خمسة أعوام انخفضت أسعار هذه الأجهزة 75 في المائة في أسواقها، وتضاعفت صادراتها 600 في المائة، وارتفعت نسبة توطين عمالتها 300 في المائة في ماليزيا و200 في المائة في تايلاند وأكثر من 140 في المائة في كوريا الجنوبية وسنغافورة. علينا أن نقتنع اليوم أن نجاح الصناعة الوطنية وعمق نفاذ صادراتها في الأسواق العالمية هو الأساس في ازدهار الاقتصاد الوطني. والأمثلة على نجاح الدول في تحييد عشوائيات قواعد وأحكام المنظمات الدولية وابتكار النظريات الخلاقة في هذا المجال متوافرة ومدعومة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي