Author

عندما تغير تسعير النفط كسلعة مضمونة البيع

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
التسعير في قطاع النفط، يقوم على أساس آلية التسعير للسلع الأساسية، التي ترتكز على مفهومين، هما تسعير FOB وهو سعر الخام أو المنتجات في ميناء التحميل، ويتعين على المشترين دفع تكاليف النقل الإضافية عند شراء الخام أو المنتجات، في حين أن نظام التسعير CIF يشمل تكاليف النقل. على هذا، فإن أسعار FOB تكون في تاريخ التحميل، بينما أسعار CIF تكون في تاريخ التفريغ. من الشائع تداول النفط الخام بسعر FOB، وعلى باقي السلع الأساسية والمنتجات بسعر CIF. وهذا يعني أن مشتري النفط الخام يشترونه عند التحميل من موانئ الدول المصدرة ثم يستأجرون ناقلات النفط الخام حتى وصوله إلى الموانئ المقصودة ويتحملون أيضا تكاليف التأمين، بينما يقوم بائعو السلع الأساسية الأخرى بتوصيل المنتجات للمشترين. لكن لماذا يحدث ذلك الفرق المهم جدا بين الطريقتين؟
بداية، فإن التسعير في الأسواق العالمية الفورية أو حتى أسواق العقود طويلة الأجل، يتم فقط على السلع الأساسية، وهي السلع التي يمكن تصنيفها على أنها سلع مضمونة البيع، فنشأت الأسواق والأسعار الفورية لها، نتيجة هذه الصفة الملازمة، فالسلع الأساسية تتميز بأنها قابلة للبيع عند أي سعر، ولا يتصور ألا تجد طلبا، وتختلف السلع فيما بينها في ضمان العقد، فبعض السلع تعد مضمونة التسليم بمجرد إنتاجها، ومثل ذلك النفط، فالنفط بمجرد وصوله إلى أعلى البئر وأصبح جاهزا للنقل إلى السفن، أو عبر الأنابيب، فقط أصبح مضمون البيع، لذا تتحدد أسعاره فورا عند ملء السفن في الميناء ويجد المشترين هناك، بينما في سلع أخرى قد تكون المخاطر عالية حتى بعد تمام الإنتاج، وتظل الشكوك كبيرة حتى يتم التسليم في ميناء العميل، ولهذا تحدد الأسعار من تلك النقاط. وعلى هذا، فإن العالم كان يعد النفط سلعة مضمونة البيع بمجرد وصولها إلى السفن وتبدأ آليات الأسواق في العمل، من حيث بيع العقود وشرائها. وهذا الذي يشكل فهمه على كثير من غير المختصين، فالأسعار والأرباح تصبحان واضحتين ومحددتين بمجرد إنتاج النفط من أعلى البئر، ويتم البيع من خلال الأسواق الفورية حتى لو لم يتم تحديد أو الاتفاق مع المشتري النهائي الذي سيقوم فعليا بتفريغ السفن، ذلك لأن مخاطر تقلبات الأسعار خلال فترة النقل تظل محدودة، كما أن تكلفة النقل محسوبة بدقة.
في أي سلعة في الدنيا، فإن السعر الذي يمكن أن تصل إليه عند توقف الطلب، هو الصفر، أي يتم البيع المجاني، وهذا يعني تحمل تكلفة الشراء، والتخلص من تكلفة التخزين، فالبعض قد يقوم برمي السلعة في البحر أو البر أو توزيعها مجانا، لكن لم يحدث أن يتم تقديم منحة مالية لمن يأخذ السلعة كما حصل أخيرا في أسواق النفط في الولايات المتحدة، والسبب بشكل واضح يعود إلى الطبيعة الخاصة بالنفط. فالنفط في شكله الخام خطير جدا على البيئة ويتسبب في كوارث بيئية كبيرة، كما لا يمكن إعادته إلى آباره إذا تم ضخه منها، ويحتاج إلى مخازن ضخمة مؤمنة بشكل كبير، وهذا يشكل تهديدا كبيرا لمن يقوم بشراء النفط من الأسواق الفورية. ومع ذلك، فالجميع يقبل هذه المخاطرة، لأنه كان قريب المستحيل أن يقف الطلب على النفط، فالمصافي تقوم بسحب كميات هائلة منه أكبر من قدرة السفن على التعويض اليومي، ولذا يتناقص المخزون اليومي من النفط في الدول، كلما قامت المصافي بسحب كميات منه. ولم يكن من المتصور أبدا أن يأتي ذلك اليوم الذي تقف المصافي عن السحب، لأن ذلك معناه توقف الاقتصاد عن العمل تماما وتوقف السيارات ووسائل النقل والطاقة كافة عن الطلب، وأن محطات التزود بالوقود مكتفية تماما لأيام، لكن هذا التصور الخيالي تماما حدث مع جائحة كورونا. لكن فجأة ودون سابق إنذار أو تجربة إنسانية سابقة، أصبحت أهم السلع الأساسية غير مضمونة البيع مثلها مثل أي نوع من الخضراوات. صورة مستحيلة اقتصاديا، لكنها حدثت، وأصبحت طريقة التسعير FOB الأشد خطورة ليس على المنتجين، بل على الأسواق الفورية فقط، فالمنتجون باعوا إنتاجهم كله في الميناء، بينما المشترون دون مخازن فقدوا المشتري النهائي تماما، فخلال رحلة الناقلة تعطل العالم.
هل هذا الحدث الجوهري والخطير جدا، سيؤثر في سلوك الأسواق والعقود؟ هل سيتم اعتبار النفط سلعة غير مضمونة البيع عند المصب، وعلى المنتجين تحمل تكلفة النقل والتأمين؟ هل يمكن أن يحدث هذا مع سلع أساسية أخرى؟ هل ستتغير أساليب وطرق المحاسبة على النفط؟ هناك كثير من الدروس الكبيرة، وفي نظري أن يوما واحدا كان قاسيا بما يكفي لجعل العالم يعيد النظر، وسننتظر.
إنشرها