Author

ممارسون فوق العادة

|

 لا يبالغ الناس في حديثهم عن أبطال الجبهات الصحية. خصوصا المشهد الدرامي الذي لم نتخيل أبدا أنه سيحدث بتلك السرعة، في أكثر الدول تقدما، ودون مقدمات، المرحلة التي يمكن تسميتها "طب الحروب". تلك المعضلات الأخلاقية الأليمة التي لا يود أحد - مهما بلغت كفاءته أو خبرته - أن يواجهها. أتذكر حالات المعضلات الأخلاقية التي كنا ندرسها في برامج الإدارة، كان القرار صعبا جدا وهو قرار إداري من أكبر آثاره الخسائر المالية، فكيف يكون القرار إذا كانت نتيجته الحفاظ على الأرواح أو خسارتها! التعامل مع المعضلة الأخلاقية يستوجب صناعة قرار نهائي وجازم مبني على التضحية وفق الإمكانات الموجودة، هي ورطة لا يمكن الخروج منها إلا بخسائر لا يقبل أن يتحملها أحد تحت الظروف الاختيارية.

ما يستحق الملاحظة، أن الأمر أوسع من ذلك، فحتى الدول التي لم تصل إلى هذه المرحلة - والحمد لله - لديها أبطال في الجبهة الصحية من مختلف الأعمار والأجناس  والكفاءات، ولديها كذلك ما يستجد من المواقف والظروف التي لم يعهدوها من قبل، ومع ذلك فهم يبذلون كل ما في وسعهم للقيام بما تمليه عليه ضمائرهم الحية وخصالهم الإنسانية النبيلة التي تجسدت من خلال هذه المحنة العصيبة.
عندما نذكر هؤلاء الذين لا ينعمون بفرصة العمل من المنزل، ويواجهون المخاطر والقرارات المهمة كل يوم، فإننا لا نغفل عن كل الفئات التي تقوم بالمهام الصعبة لتصنع لنا الظروف الملائمة التي نحتاج إليها. عندما نتحدث عن الرقم الذي يصل إلى 70 ألف طبيب تقريبا يعملون في المملكة فمن الطبيعي أن نذكر ونشكر كذلك أضعاف ذلك من الممرضين والمسعفين والممارسين أعضاء الطاقم الصحي بلا استثناء، في كل المؤسسات والمنشآت التي تقوم بواجبها كل يوم. ومن ذلك أيضا، الباحثون والفنيون الذين يعملون في المختبرات بلا كلل بحثا عن معلومة أو نتيجة تجعل الواقع أفضل، ومثلهم مساندوهم من أصحاب المهارات والمسؤوليات، حتى السائقين الذين ينقلون العينات والمواد من المشافي والمختبرات، هم كذلك أبطال في ميدان اليوم، كيف لا، وبهم تكتمل المهمة ويتحقق الأداء ويبدأ التعامل مع كل حالة انتقالا من فهم إلى فهم، ومن علاج إلى نتيجة أفضل. ولا ننسى الممارسين السعوديين خارج الحدود، مئات الأطباء وممارسي التخصصات الصحية في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وغيرها من الدول، الذين يقومون بمهمتهم الإنسانية على أكمل وجه، مشرفين الوطن والمواطن، آخذين على عواتقهم مهمة الحفاظ على الأرواح في مختلف بقاع الأرض.
لا تنحصر هذه الأعداد فقط في من يتعامل مباشرة مع الوباء الجديد، إذ المستشفيات بطبيعتها تعالج المرضى من أصحاب الحالات الحرجة والعمليات المستعجلة التي لا تتوقف، وهؤلاء لن ينتظروا انتهاء الاحترازات ولن يؤجل أحد ما يستحق المريض الحصول عليه، فجراحو الأورام والقلب وأطباء أمراض الدم وغير ذلك من المختصين في أرض الميدان - وفي هذه الظروف - يرفعون الحرج - بإذن الله - ويصنعون من أسباب الشفاء ما استطاعوا ويساندون ويعاونون كيفما تطلب الأمر.
في هذه التجارب مزيد مما يستحق التوقف، وأعني تجربة العمل تحت الضغط الشديد جسديا ونفسيا من أجل تحقيق الهدف المنشود. حياتهم اليومية تشكلت بغير شكلها المعتاد، أوقات العمل تغيرت، واحترازات الصحة والسلامة ازدادت، والاستثناءات المهمة لا تتوقف. في مثل هذه الظروف يضطر من ابتعد عن صناعة القرار أن يصنعه، ويظهر أصحاب العقول الراجحة في المواقف التي تتطلب التصرف السريع والمبادرة الفاعلة والوجود الذي يعتمد عليه، وهم - بإذن الله - على قدر التوقعات.
لا يخلو هذا الأمر من التعامل مع إدارة الأزمات بوجهها الحقيقي، والقيادة الظرفية Situational Leadership التي تتجلى ظروفها بشكل متطرف وقاس. قد يتخلى فيها الطبيب أو المسؤول عن إجراء معين، أو يبتكر أحدهم أسلوبا جديدا، أو يقوم بما لم يعتد عليه ليقنع غيره، من أجل تحقيق النتائج في هذه الظروف المختلفة جدا. لهذا، نصفق كثيرا لقادة المواقف الذين تظهر جودة معادنهم في هذا الوقت. تشكل الظروف اليوم للقادة تحديات جمة تتطلب التمكين والتيسير، فهم يتعاملون مع المختصين والخبراء الذين يبحثون عن الدعم ليس إلا، وهم متحفزون بذواتهم للقيام بالصعب من الأمور. في النهاية، هي منظومة متكاملة من الأداء الإنساني الصادق يسند فيها بعضهم بعضا. هناك من هو في الواجهة وهناك من هو خلف الكواليس؛ هناك من لا ينعم بالعزلة الكاملة، بل بعضهم منعزل عن أسرته وأحبائه، من أجل السيطرة على وضع مؤقت ننتقل بعده إلى مستقبل أفضل - بإذن الله.

إنشرها