Author

الوباء .. وانهيار قيم العولمة

|

مع انتشار فيروس "كوفيد - 19" حدثت ردود فعل عنيفة بين الدول؛ ترتب عليها تصرفات خارجة عن اللباقة في العلاقات بين الدول، خاصة ما يتعلق منها بالسطو على الكمامات، والمنظفات التي ترسلها دولة لأخرى تعاني انتشاره، وتفشيه، بصورة كشفت عجز الدول أمام كائن لا يرى بالعين المجردة، ولعل أبرز ما حدث وتناقلته وسائل الإعلام، والمحللون ما حدث بين دول الاتحاد الأوروبي التي تتباهى باتحادها، وتعاضدها في وحدة لم يشهدها التاريخ من قبل، حين تخلى بعضها عن بعض، وظهرت أنانيتها بصورة بشعة، تجردت من أبسط معاني الإنسانية؛ لتنسف مفهوم الاتحاد من أساسه.
عندما طرحت العولمة في البداية بشرت بالرخاء، والتكامل بين الشعوب، والمجتمعات، والتقارب، والتفاهم، ونبذ الخلافات، وكل ما يؤدي إليها، ليأتي "كوفيد - 19" ويكشف الغطاء عما بشرت به العولمة، ويثبت زيف الأطروحات بانكفاء دول الاتحاد الأوروبي على نفسها، وتخليها عن العولمة، وأطروحاتها الكاذبة، حتى بدأ الإعلام والمفكرون والباحثون في الاستراتيجيات يؤكدون سقوط العولمة بجميع مفاهيمها الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والقيمية، وهذا يعني بالضرورة توجه العالم إلى نمط، أو أنماط جديدة في العلاقات بين الدول، والمجتمعات، وتدشين حقبة جديدة، قد لا تكون ملامحها تشكلت بعد. بعض المحللين الإعلاميين أعطوا الفضل في انكشاف ورقة التوت عن العولمة لـ"كوفيد - 19"، وهذا يكشف خللا في التحليل، فالتحليلات التي رافقت ظهور العولمة أشارت إلى مخاوف، وتوجسات بشأن العولمة، وحذرت منها، وإن كانت أطروحات فردية، ربما لا تستند إلى بيانات ميدانية، مشفوعة بمؤشرات إحصائية.
عقدنا في كلية التربية في جامعة الملك سعود عام 2004 ندوة "العولمة وأولويات التربية" قدم فيها (41 بحثا ما بين بحث محكم، وورقة عمل شارك فيها 43 باحثا، وباحثة من المملكة، وخارجها، وحضرها أساتذة، وطلاب، وعمداء كليات تربية في العالم العربي، ونشرت بحوثها في ثلاثة مجلدات بلغت 1711 ورقة، تناولت البحوث قضايا عدة في العولمة من حيث المفهوم، والأهداف، والتقنية، وأذرع العولمة الإعلامية، والهوية، والمدرسة، ودورها في ظل العولمة، وعولمة الفكر، والثقافة، ودور الجامعات المستقبلي.
اتساقا مع ما ترتب على "كوفيد ـ 19" رأيت أهمية استعراض نتائج بحث ميداني قدمته في الندوة، كانت عينة الدراسة النهائية، والاستطلاعية من أساتذة الجامعة، وطلاب البكالوريوس، والدراسات العليا، وتركز البحث على أبعاد ستة، هي: مفهوم العولمة، وأسباب، وعوامل ظهور العولمة، وأهدافها، وآثارها الإيجابية، والسلبية، وآلياتها وأساليبها، وكيفية وآليات التعامل معها، وقد أوردت في المقدمة أن بسقوط الاتحاد السوفياتي برزت قوة وحيدة تتوافر لها إمكانات اقتصادية، وإعلام مؤثر، وقوة عسكرية، ما مكنها من بسط هيمنتها، ونفوذها على العالم، ومن أجل استمرار مكاسب الهيمنة، والتفرد في هذا العالم توجهت الولايات المتحدة توجها جديدا تشكل من خلاله المجتمعات، وتعيد صياغة الشعوب؛ لتكون منسجمة في ثقافتها، وقيمها مع الثقافة، والقيم الأمريكية ما يحقق الأهداف الاقتصادية، والعسكرية، والثقافية التي تسعى إلى تحقيقها.
من النتائج التي تم التوصل إليها بشأن المفهوم أنه غامض، ما يثير عدم الرضا بالعولمة في شكلها الذي تعرض فيه، كما ربط أفراد العينة بين العولمة، والاستعمار الغربي لكن بصورة مختلفة عن ذي قبل، أما أسباب ظهور العولمة فتتمثل في ضعف دول العالم، وتمركز القوة العسكرية، والاقتصادية في يد أمريكا، وعبر المشاركون في الدراسة عن فزعهم من العولمة؛ لما يتوقعونه من تغيير لهوية المجتمعات، وتهميش لثوابتها، وإعادة برمجة لها، وللأفراد، وعن الأذرع التي يستخدمها من يسوق لعولمة الإعلام؛ لما يمتلكه من قوة تأثير في العقول، والاتجاهات، أما الأساليب الفعالة لمواجهة العولمة فجاء في مقدمتها الأخذ بمبدأ القوة الشاملة، والعمل الجماعي بين الدول، والمجتمعات للتصدي لآثارها السلبية، مع توظيف التربية المناسبة في ذلك.
غياب الإعلام وعدم وجود الإعلامي المختص يفقدان الناس الاطلاع على نتائج البحوث التي تقوم بها الجامعات، بأساتذتها، وطلابها لتبقى هذه البحوث في الأدراج، وتبقى المجتمعات غير مؤثرة في الساحة الدولية؛ لعدم توظيفها البحوث في رسم الاستراتيجيات، والخطط، حتى إذا ما جاء وباء كورونا أشادت، وصفقت له لكشفه رداءة العولمة، رغم أن هذه الحقيقة كشفت قبل 16 عاما، ولسان حال هذه المجتمعات يقول: "زامر الحي لا يطرب".

إنشرها