الحرب البيولوجية .. أقصر السبل لإبادة الحضارة الإنسانية
الحرب البيولوجية .. أقصر السبل لإبادة الحضارة الإنسانية
أعادت غزوة كورونا إلى دوائر النقاش موضوع "الحروب البيولوجية"، فلم تفد تأكيدات المسؤولين الصينيين على أن انتشار الفيروس عائد بالدرجة الأولى إلى العادات الغذائية الصينية الغريبة، في استبعاد احتمال استعمال الفيروس سلاحا بيولوجيا. لذا يصر مراقبون كثر على الاحتفاظ بفرضية الحرب الجرثومية، رغم توالي القرائن المفندة لهذا الادعاء، مع مرور الأيام والأسابيع، بعد أن هبت رياح الجائحة على الدول كافة دون تمييز أو استثناء.
سارعت أصوات عدة، في الأيام الأولى لانتشار الوباء، إلى ترجيح هذه الفرضية، مستندة للدفاع عن رأيها إلى كون مدينة ووهان مكان ظهور وانتشار الفيروس لأول مرة، مستقر المختبر الوحيد المعلن عنه والمعترف به رسميا في الصين للتعامل مع الفيروسات القاتلة. ما حدى بهؤلاء، إلى عد ما جرى هناك ويجري الآن في العالم، فصلا جديدا من فصول الحرب البيولوجية الضاربة في القدم؛ قدم وجود الاجتماع الإنساني.
أصول السلاح البيولوجي
تعد الحرب البيولوجية إحدى أخطر أنواع الحروب، والأقل تكلفة مقارنة بالحروب التقليدية أو حتى النووية، فإنتاجها لا يتطلب سوى معملا بسيطا؛ يتوافر على المعدات اللازمة، مع حدود دنيا من المعرفة العلمية، ما يسمح بإنتاج كميات ضخمة من المواد البيولوجية التي تستخدم كأسلحة. توصف كذلك بالحرب الصامتة، لافتقادها الأسلحة المادية والانفجارات والشظايا والنيران، فالمعني الأول بمفعولها هو الإنسان؛ فردا وجماعة، الذي تقضي عليه بشكل مفاجئ، دون أن تمنحه شرف المواجهة والدفاع عن النفس. باختصار، إنها "الفناء".
يقصد بالسلاح البيولوجي كل العوامل المسببة للأمراض والأوبئة من بكتيريا وفطريات وفيروسات... وجميع السموم المنتجة بواسطة هذه الكائنات أو المستخلصة من النباتات والحيوانات. ويصنفه باحثون في خانة أسلحة الدمار الشامل غير التقليدية، التي شهدها تاريخ البشرية، وأطلق عليه آخرون تسمية سلاح "العقوبات الذكية"، لكونه يعمد إلى نشر الأوبئة والجراثيم بغية القضاء على أكبر قدر ممكن من الأحياء، بشرا كانوا أو حيوانات أو نبات لا فرق.
يعتقد كثيرون أن الحروب البيولوجية وليدة العصر الحديث، لارتباط مكنوناتها بالحقبة الحديثة. لكن وقائع التاريخ تفيد بوجود ممارسات لهذه الحروب، بأساليب بدائية في العصور القديمة. تطور في الفترة المعاصرة، بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي (الهندسة الوراثية، البيولوجيا الجزيئية، التكنولوجيا الحيوية...)، ما زاد من قدرتها على الدقة في الإصابة والفتك والتدمير.
حروب جرثومية عبر التاريخ
يعتقد أن أول استخدام للسلاح البيولوجي؛ بأسلوب بدائي، يرجع لما قبل الميلاد، حين أقدم القائد اليوناني سولون على تلويث مياه شرب أعدائه، باستخدام جذور نبتة الهيليوروس، ما سهل انتصاره في الحرب. ثم جاء الآشوريون ليعتمدوا هذا السلاح بقوة في جل معاركهم، فراوحت التقنيات بين النباتات السامة والحيوانات النافقة وسموم الأفاعي.. ظل هذا السلاح طيلة الحقبة القديمة مجرد عامل مساعد للفوز في المواجهة العسكرية التقليدية.
كان هذا السلاح أداة فتاكة في العصور الوسطى والحديثة، فقد استعان به قادة الجيوش خلال الحروب الصليبية، حين قاموا بإلقاء جثث الجنود على معسكرات الخصم، لنشر الأمراض والأوبئة، خصوصا الطاعون والجدري والكوليرا.. في صفوف العدو. كما وظفه المغول عند اجتياحهم عديدا من البلدان، كان أشهرها حصار عام 1347 لمدينة كافا؛ في ودوسيا الواقعة حاليا بشبه جزيرة القرم، التي كانت مدخلهم إلى أوروبا. فقاموا بقذف المصابين بالطاعون في جيشهم بالمنجنيق داخل المدينة، ومنها انتقل المرض "الموت الأسود" إلى ربع سكان أوروبا، ما بين عامي 1348 حتى عام 1350.
سهل هذا السلاح على الأوروبيين القضاء على السكان الأصليين لأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وكذا السكان الأصليين للقارة الأسترالية. فقد نقل البريطانيون إلى المستعمرات الأمريكية مرض الجدري، من خلال ملابس وأغطية؛ مجلوبة من مشافي العزل الصحي لمرضى الجدري، تم إرسالها إلى رؤساء القبائل من السكان الأصليين. فكانت النتيجة إنهاء حياة 4/3 هؤلاء، لافتقادهم المناعة ضد أمراض غير معروفة لديهم.
الحروب الفتاكة
تطورت هذه الأسلحة بشكل لافت في الحقبة المعاصرة، مستفيدة من تزايد الاهتمام بها منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية وخلال فصول الحرب الباردة، ما أدى إلى تشكيل طفرة على مستوى التقنيات البيولوجية. ويذهب تيار متشدد من معتنقي نظرية المؤامرة إلى أن المختبرات الطبية الخاصة بالأسلحة البيولوجية مسؤولة عن أمراض من قبيل نقص المناعة وجنون البقر وإنفلونزا الطيور والجمرة الخبيثة وفيروس إيبولا وحمى الضنك... كل هذا ضمن فرضية كبرى تعرف باسم "القنبلة العرقية"، التي تستهدف أعراقا بعينها، بحسب ادعاءات أصحابها.
بعيدا عن الفكر التآمري، اهتمت المؤسسات العسكرية منذ بداية القرن الماضي بتطوير هذا الصنف من الأسلحة، وأولت دول عديدة عناية خاصة له، فأسست بريطانيا عام 1940 أول مركز بحثي للأسلحة البيولوجية في منطقة بورتن، استطاع بعد عام إنتاج أول القنابل البيولوجية المعبأة بالجمرة الخبيثة. دفعت هذه التطورات الولايات المتحدة عام 1942 إلى تأسيس أول مكتب لبحوث الحرب البيولوجية في وزارة الدفاع الأمريكية.
ميدانيا، استعمل السلاح البيولوجي في عديد من الحروب، ولكن على نطاق محدود جدا. فاستعان به الجيش الأمريكي، في حرب فيتنام، وتم استخدامه ضد كوبا من أجل إتلاف محصول قصب السكر؛ مصدر الدخل الرئيس في البلد. واستعملته وحدات في الجيش الياباني في منطقة منشوريا في ثلاثينيات القرن العشرين.
خلال الحرب الكورية، وجهت الصين وكوريا الشمالية إلى الولايات المتحدة اتهامات باستخدام أسلحة جرثومية ضدهما. ادعاء أكده بشكل محتشم تقرير اللجنة العلمية الدولية للأمم المتحدة للتحقيق في شكاوى الصين وكوريا، فقد تحدث عن "احتمال تعرض أفراد في مناطق النزاع بمواد جرثومية، ورصد وجود لجراثيم الكوليرا والجمرة الخبيثة، وبراغيث مصابة بجراثيم الطاعون، وبعوض يحمل فيروسات الحمى الصفراء، وحيوانات منزلية تم استخدامها لنشر الأمراض الوبائية".
أدرك عديد من الدول مخاطر استعمال هذا السلاح، فوقعت عام 1925 على "بروتوكول جنيف"؛ قصد منع اللجوء إلى هذه الأسلحة في الحروب. قبل أن يزداد الأمر خطورة، مع التطور العملي في الصناعات العسكرية الذي رافق فترة الحرب الباردة، ما دفع المملكة المتحدة أواخر الستينيات إلى تقديم مشروع معاهدة لحظر استحداث وتطوير وإنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة البيولوجية، تم التوقيع عليها في أبريل (نيسان) 1972، ودخلت حيز التنفيذ بعد ثلاثة أعوام، في آذار (مارس) 1975، بعد مصادقة 22 دولة عليها. لكن بقيت دول فاعلة تذكر افتقادها الآليات تسمح بالتحقق من الالتزام بالمعاهدة.
لم يدخر أسلافنا جهدا في إنشاء صرح الحضارة على مدار آلاف الأعوام، في المقابل نجتهد نحن لوضع خطط لإبادتها، على غرار ما يحدث حاليا مع وباء كورونا، الذي وضع البشرية جمعاء تحت رحمته.
أسست بريطانيا عام 1940 أول مركز بحثي للأسلحة البيولوجية في منطقة بورتن استطاع بعد عام إنتاج أول القنابل البيولوجية المعبأة بالجمرة الخبيثة