لكيلا يتمكن كورونا من رئة الاقتصاد الحقيقي

بعد زهاء أربعة أشهر من اكتشاف أول حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد والإعلان عنها، صنفت جائحة كورونا واحدة من أسوأ الأزمات التي شهدها العالم في العصر الحديث وتبوأت مقعدها باستحقاق في قائمة الأحداث التي أدت إلى أكبر الهزات الاقتصادية منذ بداية القرن الـ20 إلى يومنا هذا. كيف لا وقد تجاوزت الآثار الاقتصادية لهذه الجائحة آثار أحداث كبرى تحولت إلى لحظات فارقة في التاريخ البشري الحديث كالكساد الكبير والحرب العالمية الثانية والأزمة المالية العالمية التي حدثت منذ أكثر من عقد. ولعل الضرر الاقتصادي الذي أحدثه وباء كورونا في بضعة أسابيع تجاوز ما أحدثته الأزمة المالية العالمية سنة 2008 على مدى ثلاثة أعوام وهو ما ينبئ بمرحلة صعبة على كل المستويات سيمر بها العالم في الفترة المقبلة وقد يمتد أثرها إلى ما بعد انحسار الوباء وسيحتاج العالم إلى أعوام للتعافي.
جائحة كورونا كانت إذا وما زالت عامة، شاملة، عابرة للقارات والقطاعات فلم تكد تستثني بلدا أو قطاعا مخلفة حجما هائلا من الخسائر، ولكنّ هناك إجماعا واضحا على أن أكثر من تضرر منها هو بكل تأكيد قطاع الشركات متناهية الصغر والصغرى والمتوسطة ("م. ص. م") الذي يقبع الآن في عين العاصفة.
التركيز في مقالنا هذا على قطاع على الشركات "م. ص. م" لم يأت من فراغ، فلا يخفى على أحد الأهمية الاستراتيجية لهذه الشركات في أغلب اقتصادات العالم، فهي تعد صمام الأمان وتمثل أكثر من 90 في المائة من الأعمال الاقتصادية المسجلة في العالم وتوفر أكثر من 50 في المائة من الوظائف فيه وتسهم بأكثر من 40 في المائة من الناتج الداخلي الخام في الدول النامية، وهذه الأرقام مرشحة للارتفاع بقوة إذا أضفنا إليها القطاع غير المنظم. أما في دول العالم الإسلامي، فالشركات "م. ص. م" تكتسب أهمية أكبر، يترجم ذلك معدل 53.2 شركة لكل ألف ساكن وهو ما يمثل أكثر من ضعف المعدل العالمي المقدر بـ25.2 شركة لكل ألف ساكن.

قطاع الشركات المتناهية الصغر والصغرى والمتوسطة في قلب الأزمة
الضرر الذي لحق بالشركات "م. ص. م" متأت أساسا من الانكماش الاقتصادي الكبير وتهاوي الطلبين العالمي والمحلي على حد سواء جراء القيود المفروضة على السفر والتنقل إضافة إلى الحجر واسع النطاق المفروض بالقانون على الناس في أغلب الدول وهو ما أدى إلى توقف كلي أو جزئي لأنشطة نسبة كبيرة من الشركات "م. ص. م"، عززت ذلك الهزات العنيفة التي ضربت سلاسل الإمدادات العالمية الضرورية لأي عملية إنتاج أو تصنيع أو تحويل. وبالتالي وجدت الشركات "م. ص. م" نفسها في صراع من أجل البقاء؛ فرغم تقلص نشاطها الاقتصادي فهي مطالبة بأن تجد الموارد لتغطية مصروفاتها التشغيلية الثابتة والمتغيرة من أجور وإيجارات ومصروفات متنوعة إضافة إلى ضرورة إيفائها بالتزاماتها تجاه المؤسسات المالية المقرضة دون نسيان الضرائب التي عليها دفعها. ولذلك يبدو الحل البدهي لكثير من الشركات هو اللجوء إلى تقليص المصروفات وذلك بالتخلي عن العمالة وهو ما يمكن أن يحول الأزمة الاقتصادية إلى أزمة اجتماعية حادة خاصة أن بعض خبراء الاقتصاد حذروا من فقدان العالم أكثر من 25 مليون وظيفة والعدد مرشح للارتفاع إن تواصلت الجائحة وامتدت في الزمان والمكان.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مجموعة من الباحثين من جامعة Tsinghua University المرموقة في الصين على عينة متنوعة من الشركات "م. ص. م" في ذروة انتشار الوباء أن أكثر من ثلث الشركات المستجوبة أقر بأنه لا يستطيع الاستمرار لأكثر من شهر في ظل تقلص النشاط الاقتصادي، في حين أقر ثلث العينة بأنه لا يستطيع الاستمرار لأكثر من شهرين وفي المقابل خلص الاستطلاع إلى أن 10 في المائة فقط من الشركات المستجوبة تستطيع المقاومة لمدة ستة أشهر أو أكثر. وفي ضوء هذه النتائج، لنا أن نتخيل ماذا يمكن أن تكون النتيجة في الدول النامية ذات الموارد المحدودة والنشاط الاقتصادي ضعيف الكفاءة مقارنة بالاقتصاد الصيني، ولنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يكون حجم الضغط الاقتصادي والاجتماعي المتولد عن هذا الوضع ولنا كذلك أن نتساءل كيف ستتعامل الحكومات مع هذا الوضع في ظل شح الموارد عموما وانعدام الخيارات.

وعي عالمي بأهمية دعم قطاع الشركات المتناهية الصغر والصغرى والمتوسطة
لم يحتج الوعي الجماعي العالمي إلى وقت ليتشكل ويفهم خطورة الوضعين الآني والمستقبلي، ولذلك هب أغلب الحكومات في العالم إلى إطلاق برامج للتحفيز الاقتصادي كان نصيب الأسد فيه لقطاع الشركات "م. ص. م."، وعززت الحكومات هذه البرامج بحزم متنوعة من الحوافز الجبائية والمساعدات المالية لهذا القطاع لحمايته وللحفاظ عليه وتمكينه من القيام بدوره المعهود في تعزيز النمو وتنشيط الدورة الاقتصادية وإلا فإن إعادة البناء قد تستغرق أعواما طويلة وصعبة للتغلب على آثار الإفلاس واسعة النطاق والبطالة المنجرة على ذلك.
وراوحت أهم الإجراءات بين إعفاءات وتأجيل للضرائب والأداءات وبرامج لتأجيل دفع مستحقات القطاع المالي لمدة تراوح بين ثلاثة وستة أشهر قابلة للتجديد، وبرامج تمويل الإقراض الميسر لدعم استمرارية الأعمال واستدامة الوظائف، وبرامج ضمان التمويلات لتشجيع القطاع المالي على التوسع في التمويل خلال فترة الأزمة.
ولعل البيان الذي صدر عن القمة الاستثنائية الافتراضية لقادة دول "مجموعة العشرين" والذي عرج بوضوح على أهمية حماية ودعم قطاع المنشآت "م. ص. م" ضمن حزمة من التدابير الفورية والقوية معززة بدعم مالي جريء وكبير يقدر بخمسة تريليونات دولار لدعم الاقتصاد العالمي، خير دليل على الأهمية الاستراتيجية لهذا القطاع وتمركزه في قلب معركة العالم ضد الآثار الاجتماعية والاقتصادية والمالية لجائحة كورونا.

دور البنك الإسلامي للتنمية في الجهد الدولي الهادف إلى دعم قطاع الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة
استجابت مجموعة البنك الإسلامي للتنمية بصفة فورية لتداعيات جائحة كورونا وعكفت على إعداد حزمة متكاملة تقدر بملياري دولار، جعلت فيها نصيبا مهما لدعم وتمكين قطاع الشركات "م. ص. م" في الدول الأعضاء.
ويهدف البرنامج الذي يعده البنك إلى توفير جزء من السيولة اللازمة بصيغ تفاضلية للدول الأعضاء من خلال قطاعاتها المالية ثم توجيهها لدعم تدفق عمليات التمويل إلى الشركات "م. ص. م" ومن المنتظر أن تصاحب ذلك برامج لضمان الإقراض ومنح لبناء قدرات الدول الأعضاء في مجال إعداد برامج الدعم وحزم الحوافز الموجهة إلى الشركات ذاتها بقصد الحفاظ على الوظائف المباشرة وغير المباشرة وإنعاش النشاط الاقتصادي والمساعدة على استعادة وتيرة النمو للتغلب على وطأة الأزمة الحالية وتبعاتها المحتملة في المستقبل.
وتبلغ قيمة هذا البرنامج 500 مليون دولار وسنعمل على أن يكون رافعة لحشد موارد أخرى من مؤسسات تنموية شريكة إضافة إلى شركاء محليين على مستوى الدول الأعضاء بهدف تعظيم الأثر المستهدف ومن المتوقع أن يسهم برنامج البنك في الحفاظ على أكثر من 200 ألف فرصة عمل مباشرة مهددة فضلا على فرص العمل غير المباشرة التي تمثل عادة بين أربعة وخمسة أضعاف، ذلك ما يجعل البنك مساهما في إنقاذ 5 في المائة تقريبا من الوظائف المهددة على مستوى العالم ونسبة أكثر أهمية بكل تأكيد على مستوى العالم الإسلامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي