Author

توازن «كورونا» .. قواعد الاقتصاد التي أربكت الطب في العالم

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

 التوازن الاقتصادي، هو المفهوم السحري في علم الاقتصاد، ودون هذا المفهوم تصبح المعادلات الاقتصادية مستحيلة الحل، الأزمات الاقتصادية بشتى أشكالها القديمة والحديثة تحدث بسبب فقدان الأسواق التوازن، فتنهار الأسعار أو تتضخم، وينهار الطلب كسادا أو ينفجر بما يعجز الإنتاج عن مقابلته. وإذا فقد التوازن تتأرجح الأسعار في هذه الرحلة من الجنون حتى تصل إلى التوازن الجديد، الذي يعكس الحقائق الجديدة، وقد تكون هذه الرحلة مؤلمة جدا، فالآلة التي تصحح نفسها لا ترحم أحدا، ويعتمد التوازن الجديد على مدى متانة الحقائق الجديدة المفروضة، قبل أن تحدث الأزمة التالية. قد يرتبك التوازن بسبب مرض مثل "كورونا"، لكن بشرط، أن يؤثر في العرض أو الطلب لسلعة معينة أو خدمة أو قطاع، بمعنى، أن يصبح له تأثير في سلوك المجتمع، وهذا بالضبط ما فعله "كورونا"، فرغم أن التقارير تؤكد أنه أقل خطورة مقارنة بأنواع أخرى من الفيروسات إلا أن تأثيره في سلوك المجتمعات كان هائلا جدا، والسبب كما فهمته، أنه يختلف عن الأنواع الأخرى في سرعة انتشاره من جهة، والأخرى حاجة المرضى إلى عناية طبية مكثفة جدا، ما يرفع الطلب على الخدمات الصحية بشكل يفوق جميع المعروض، خاصة الكوادر الطبية، فيصيب النظام الصحي في أي دولة بالشلل التام، لذا كانت ردة فعل الحكومات أكبر وأشد من ردة فعل المجتمعات، ومع تشدد الأجهزة الحكومية دفاعا عن الأنظمة الصحية فيها، تمت إصابة النظام الاقتصادي باختلالات أوسع واختل توازن الأسواق نظرا لانخفاض الطلب وكثافة المعروض وتكاليف التشغيل، ما يهدد كثيرا من الصناعات بخلل كبير قد تصعب معالجته.

وبداية، وقبل الدخول في أفكار المقال نشكر الله ونحمده، أن قيض لهذه البلاد حكومة رشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين حيث وضعت صحة الإنسان في أعلى مراتب الأهمية عند صياغة قواعد الاقتصاد الكلي، وترتيب مصروفات الميزانية، ولعل البعض سيدرك مع هذا المقال، لماذا يتم تخصيص أرقام ضخمة للقطاع الصحي؟ ولماذا النقاش طويل وبطيء في مسائل مثل التأمين؟ لقد راوحت ردة فعل الحكومات حول العالم بشأن هذا المرض بناء على قدرة نظامها الصحي وتكامله، وقدرته على مواجهة الطلب على خدماته، لكن للحقيقة، قد كشف "كورونا" مدى الخطأ الفادح في اقتصاد الطب في العالم، وما أوردته وكالات الأنباء عن الحوار بين السيناتور الأمريكية ووزير الصحة هناك يشير إلى حجم المشكلة، فاقتصاد الطب لم يجد حتى الآن عملا وجهدا يوازي المخاطر المحدقة به، ومدى خطورة اختلال التوازن فيه على العالم أجمع، فنظام التأمين في الولايات المتحدة مثلا، يشكل الآن ضغطا كبيرا على الحكومة، فمن له تأمين يجد الفحص، وعلى أولئك الذين يعيشون خارج التغطية مراعاة الفارق بينما تكلفة الفحص تتطلب مبلغا كبيرا، والدخل لا يكاد يكفي الحاجة، والعلاج يتطلب ثروة، ولا يمكن فهم ما قاله رئيس الوزراء البريطاني ونموذج الحل، الذي اختارته وزارته، إلا أن اقتصاد الصحة هناك لا يمكنه مجابهة هذا المرض، لقد كان "كورونا" انكشافا حقيقيا، فالعلاج، الذي هو حق أصيل للإنسان، أصبح اليوم وقبل "كورونا" انعكاسا للطبقية الرأسمالية، ويحصل على حق العلاج من يكون قادرا على الدفع، لذلك عندما انتشر "كورونا"، وأصاب جميع فئات المجتمع وأصبح الوزير معرضا له قبل عامل المصعد، تبين للحكومات حجم الخلل في التوازن، ذلك أن ترك الفئات الأقل حظا تعاني المرض، يعني انتشاره بشكل واسع، ومعالجتهم تعني انهيار النظام الذي لم يصمم من أجلهم، فلم يكن أمام الخلل الكبير في العرض والطلب الذي أصاب النظام الصحي العالمي إلا أن تقوم الحكومات بالإجراءات الضخمة من أجل تصحيح الخلل.
لعل من الجدير أن أذكّر القارئ بمقال الأسبوع الماضي، عندما تحدثت عن نجاح نظام الحكم في الصين في معالجة "كورونا"، لقد كان النظام الاقتصادي هو الحل هناك بينما كان هو المشكلة في الغرب.
لقد أخطأ العالم كثيرا عندما لم يقرأ بدقة مدى التدهور الذى حصل في الخدمات الصحية وفجوات العرض خاصة في الكوادر الطبية، وما حدث من احتكارات في هذه المهنة وإغلاق الكليات بحجج مثل الجودة، ولم يكن العالم بحاجة إلا إلى أزمة طلب على الخدمات الصحية بحجم "كورونا"، عندها فرضت قواعد الاقتصاد والتوازن شروطها وبقسوة كما هي عادتها وهي في هذه الطبيعة لا ترحم أحدا، لقد فاق الطلب على الخدمات جميع مستويات العرض المتاحة، ومع أن العالم قد يتجاوز هذه المحنة بتكلفة أكبر مما كان يتوقعها لكن يجب أن تكون الدروس واضحة، والحديث عن الصحة يجب أن يكون في سياق مفاهيم الاقتصاد الكلي وليس الجزئي، بمعنى أن مقاييس العرض والطلب يجب أن تتم في سياق التوازن الكلي، وليس في سياق الربح والخسارة عند مستوى المنشأة الاقتصادية وموقعها أو جغرافيتها، لعلنا هنا نعيد التفكير في نماذج مثل التأمين الطبي والخصخصة.

إنشرها