Author

ماذا نرجو من وزارة «الموارد البشرية»؟

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

 قبل أعوام عدة كتبت عن سوق العمل السعودية، وأسهبت في العرض في سلسلة امتدت إلى خمس مقالات، ثم أتبعتها بمقالات تحدثت فيها مرارا وتكرارا عن قضايا اقتصاد سوق العمل، وتابعت باهتمام كل الحلول والمحفزات لهذه السوق، وأكاد أجزم أن المشكلة الأبرز تكمن في التعامل مع هذه القضية. فنحن نتعامل معها بنظرة قانونية بحتة وليس من خلال التفسير الاقتصادي لسلوك السوق. والفرق كبير وهائل ذلك أن أحدا في العالم لم يفهم العلاقات الاقتصادية إلا عندما نشر آدم سميث كتابه عن ثروة الأمم، لقد أدرك العالم حينها أن الاقتصاد يشبه الفلك الذي تحدث عنه نيوتن وأن الرياضيات قادرة على تفسيره كما فسرت حركة الكواكب، وفعلا جاءت النظرية الرأسمالية لتضع عوامل الإنتاج وتفسر الدخل والثروة بشكل مقنع. إنها العلاقات الميكانيكية التي جعلت الرأسماليين من بعد آدم سميث يؤمنون بآلية السوق وقدرتها على إصلاح العطب الاقتصادي، لم تعد للتشريعات قدرة على تفسير العلاقات بين العمال وأصحاب العمل، وبعدها أصبح التشريع تابعا للعلم، ومن وجهة النظر العلمانية تم تحويل هذه العلاقات الاقتصادية ذات التفسير العلمي إلى قوانين وتشريعات. ولهذا عندما نقض ماركس النظرية الرأسمالية التي من وجهة نظره وضعت الرأسماليين موضع المشرعين واستخفت بحقوق العمال، كان عليه أولا أن ينشئ نظرية علمية تفسر العلاقات بشكل مختلف فنشأت نظريته الشيوعية وحتمية التاريخ، التي قلبت العلاقات وبنت قوانين وتشريعات جديدة. وهكذا مضى العالم، بعدما نشأت النظرية الكنزية والعمالة الناقصة تم تعديل التشريعات لتواكب التفسير الجديد للأسواق. في المقابل نحن نقفز دوما إلى التشريعات دون تفسير متكامل لسلوك الاقتصاد وسوق العمل، مثال ذلك برنامج نطاقات الذي لا يمكنني تفسيره اقتصاديا، بل هو مجرد تشريع وتقنين للسوق دون سند اقتصادي كاف.

لماذا تتجه السوق إلى دفع راتب أقل للعامل الأجنبي مقارنة بالعامل السعودي، أو لنقل لماذا يعرض العامل الأجنبي ذلك؟ ثم لماذا تقبل السوق بالعامل السعودي رغم ارتفاع أجره، هل هذا طلب حقيقي أم مصطنع من خلال الأنظمة والتشريعات والجبر؟ هل توزيع الدخل بين عوامل الإنتاج يمثل توزيعا عادلا أم متحيزا لأصحاب العمل الذين يحصلون على عوائد أكبر من قيمة مساهمة رأس المال وكيف نفسر لك؟ هل أجر العامل يقاس فقط من خلال الجزء النقدي فيه أم يتم السوق يحتسب العناصر الأخرى؟ هل هناك فرق في الأجور بين العمال الأجانب بناء على الجنسية وليس على طبيعة العمل، وهل مثل هذا التصنيف يحدث مع العامل السعودي؟ هل من الأفضل قياس الأجور بناء على وحدة العمل بالساعة، ومن ترك السوق تحدد ساعات العمل؟ أم يجب أن نقنن ساعات العمل ونترك للسوق تحديد أجر على الساعة، هذه الأسئلة ومثلها كثير تصعب علينا معرفتها ويصعب وجود بيانات مفتوحة لمناقشتها علنا ولهذا يصعب فهم تأثير التشريعات في السوق.
قرارات توطين المهن تواجه مشكلة القفز إلى التشريع دون أن تجد التفسير الكافي في النظرية الاقتصادية. وفي هذا خصوصا نواجه مشكلة في تفسير معنى ومفهوم المهن، فهل الحلاقة مهنة أم حرفة؟ وهل البيع في سوق الخضار مهنة أم حرفة؟ وهل هناك فرق بين مهنة البيع نفسها وكونها في الخضار أو محل البلاستيك والهدايا؟ والسؤال الأكثر أهمية، هل هناك مشكلة في تأهيل العامل السعودي، حيث أصبحت هذه المهن تشكل منافسة حادة مع العامل الأجنبي ويجب تنفيذ إجراءات حمائية؟ هناك أسئلة من هذا النوع لا أجد لها مصادر للإجابة أو حتى للدراسة والتحليل. وفي اعتقادي أن أهم المهمات التي يجب على وزارة «الموارد البشرية» أن تباشرها هي مهمة توفير هذه البيانات للدراسة الاقتصادية والبحث والنشر.
تبقى الأسئلة كثيرة حول الدور المتوقع من وزارة «الموارد البشرية» وهي تخلع اسمي وزارتي الخدمة المدنية والعمل وتتلبس مفهوم الموارد البشرية، ذلك المفهوم الذي يعني قياس وتطوير رأس المال البشري، وليس مجرد توطين وظائف من خلال قوة النظام، وليس من خلال مفاهيم اقتصادات الموارد البشرية التي ترى الاقتصاد الرقمي محورا لقياس قيمة رأس المال البشري، فوظائف مثل البيع قد لا تجد مستقبلا في القريب ونحن نرى ونشهد كيف بدأت التجارة الإلكترونية تقفز بموارد الأمم وثرواتها، وكيف قفزت الهند من خلال تطوير مهارات العمال في تقنية المعلومات إلى منافس اقتصادي عالمي شرس، فكيف ستقودنا الوزارة الجديدة في هذا المفهوم الصعب، وهل يمكننا فعلا قياس حجم رأس المال البشري وقيمته في مؤسساتنا المختلفة، وهل وظائف مثل لاعبي كرة القدم والمدربين والحكام خارج منظور هذه المفاهيم؟
ونحن نشهد اليوم قضية التستر وردة الفعل التي تقابلها من خلال تشريعات، فهل يمكن للوزارة أن تقدم تفسيرات اقتصادية لهذا السلوك الغريب في السوق؟ وكيف يقبل العامل الذي أتى بعقد أن يصبح صاحب العمل، ويقبل المخاطر الجسيمة هذه؟ ولماذا يرضى صاحب العمل السعودي أن يصبح دون قرار في ماله ويرضى بهذه الدفعات الشهرية التي قد تكون هزيلة؟ هل هذا من أنواع الاستثمار أم التحايل من قبل السعودي؟ وإذا قلنا إنه تحايل، فعلى من تم التحايل على وجه التحديد؟ نريد من وزارة «الموارد البشرية» أن تصنع لنا مسارا جديدا كليا، ونقرأ واقعنا بطريقة اقتصادية بحتة ومن ثم نصدر التشريعات بما يحقق لنا الأهداف الاقتصادية الكلية ومستهدفات «2030».

إنشرها