لا توجد حدود سحرية للدين العام «3 من 3»

اقتصرت مناقشتنا حتى الآن على الفترات التي شهدت ارتفاعا في نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي عن حد معين. ولكن ماذا عن الدول التي تشهد نسب دین مرتفعة، ولكن متناقصة؟ لبحث هذه المسألة، قمنا بتحديد جميع الفترات، التي انخفضت فيها نسبة الدين عن مستوى معين. ويقارن أداء النمو خلال هذه الفترات بالفترات السابقة. وقد لاحظنا انخفاضا حادا في النمو خلال العام التالي في الدول، التي تجاوز مستوى الدين فيها 90 في المائة، ولكن يتضح أن هذا الانخفاض لم يعد موجودا في الدول، التي تشهد مستويات دين مرتفعة، لكن متناقصة. فقد كانت معدلات النمو قوية بالفعل حتى في الدول التي تراوح نسب الدين فيها من 130 إلى 140 في المائة، ولكنها تشهد مسارا هبوطيا في ديونها. ويشير ذلك إلى أن ارتفاع الدين في حد ذاته لا يؤدي إلى نمو منخفض خلال هذه الفترات، حيث إن المسار المبدئي للدين ظلت له دلالات مهمة حتى بعد مرور 15 عاما، مع اقتران تراجع الدين بارتفاع في النمو. ويعني ذلك أن مسار الدين يبدو أنه مؤشر مهم على النمو اللاحق، ما يعزز الفكرة القائلة، إن مستوى الدين وحده ليس مؤشرا كافيا للتنبؤ بالنمو المستقبلي.
وتقع الفترات التي قمنا بدراستها ما بين عام 1875 ونهاية القرن الـ20. وقد تفاوت متوسط النمو خلال هذا الوقت تفاوتا كبيرا ما بين انخفاض خلال الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وارتفاع خلال خمسينيات القرن الماضي. لذلك فقد تنطوي نتائجنا على بعض التشوهات نتيجة الارتفاع العام في معدلات النمو في جميع الدول عقب الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال. ولاستبعاد تأثير هذه الاحتمالية، قمنا بمقارنة متوسط معدل النمو لأحد الاقتصادات خلال فترة ما بالمتوسط البسيط لمعدلات نمو جميع الاقتصادات خلال الفترة نفسها.
ومع إحلال مقياس النمو النسبي محل النمو المطلق لكل فترة. والنتيجة العامة التي توصلنا إليها، أن أداء النمو في الاقتصادات التي يرتفع فيها مستوى الدين يساوي تقريبا أداء النمو في الدول النظيرة الأقل استدانة. فالفروق دون 0.5 في المائة سنويا. ولكنها قد تتجاوز ذلك في حالة المقارنة بأقل الاقتصادات استدانة. كذلك وجدنا أن مسار الدين لا يزال مهما. ففي الاقتصادات المتماثلة من حيث مستوى الدين، يكون أداء النمو أفضل خلال الـ15 عاما التالية في الدول، التي بدأت بمستوى دين متناقص مقارنة بالدول التي بدأت بمستوى دین متزايد. وهذا الفارق دال إحصائيا في جميع دول العينة، ولكنه أعلى ما يكون في حالة بلوغ مستويات الدين 90 في المائة إلى 115 في المائة من إجمالي الناتج المحلي "حيث يكون متوسط النمو أعلى بمقدار نصف نقطة مئوية في هذه الحالة". كذلك لا يوجد حد أقصى معين يعقبه دائما تراجع في أداء النمو. إذ يتضح بالفعل، أن الاقتصادات التي يراوح فيها مستوى الدين من 90 في المائة إلى 110 في المائة من إجمالي الناتج المحلي تكون أفضل أداء من نظرائها عندما يكون مسار الدين متناقصا. ويتضح من ذلك على الأقل أن مستوى الدين وحده ليس مؤشرا كافيا لمستوى النمو الممكن لاقتصاد ما، وأن الدول التي قامت بتصحيح عجز موازناتها "الذي ينعكس في صورة مستويات استدانة متناقصة" قد تتوافر لها القدرات اللازمة للنمو في المستقبل رغم ارتفاع مستويات الدين.
أظهر تحليلنا للبيانات التاريخية عدم وجود حد أقصى ثابت يؤدي تجاوز نسب الدين له إلى تراجع حاد في آفاق النمو متوسط الأجل. فعلى العكس، يقل الاقتران بين الدين والنمو عند ارتفاع مستويات الدين، عندما لا يكون التركيز على العلاقة بينهما في الأجل القصير - ولا سيما عندما تكون المقارنة بمتوسط أداء النمو في الدول النظيرة. كذلك وجدنا شواهد على أن مسار الدين له تأثير مهم في العلاقة بين مستوى الدين والنمو: فالدول التي شهدت مستويات دين مرتفعة، ولكن متناقصة حققت معدلات نمو تاريخية مماثلة لنظرائها.
وعلى غرار الدراسات السابقة، ينطوي تحليلنا على أوجه قصور تحول دون أن تكون له انعكاسات قوية على السياسات. فعلى سبيل المثال، تسهم منهجيتنا في الحد من مشكلات العلاقة السببية العكسية في الأجل القصير "حيث ارتفاع الدين نتيجة شبه تلقائية لانخفاض النمو"، ولكنها غير قادرة على تحديد علاقة هيكلية واضحة بين الدين والنمو.
ولكن بالنظر إلى ظاهر النتائج، التي توصلنا إليها، يمكن أن نرى فيها بعض الانعكاسات المهمة على السياسات.
أولا، مستوى الدين مؤشر ضعيف على نتائج النمو، وبالتالي فإن الدراسات التي تهدف إلى تعزيز النمو ينبغي أن تضع في حسبانها عوامل أخرى متنوعة.
ثانيا، لا يؤثر الدين المرتفع المتناقص تأثيرا سلبيا في النمو، ما يضفي مزيدا من التفاؤل على تقييم آفاق الدول عالية الاستدانة.
ثالثا، لا يوجد حد أقصى معين للديون يؤدي تجاوزه إلى تقويض آفاق النمو، ما يعني أن الاقتصادات يمكنها التركيز على الآثار الصافية لسياسات الاستقرار في الأجل المتوسط بدلا من القلق من تجاوز الدين لحد أقصى معين في الأجل القصير وما قد ينتج عن ذلك من آثار حادة وسلبية.
ومن المفترض على الأقل أن يتيح ذلك لصناع السياسات مزيدا من المرونة عند تحديد أفضل مسار يمكن اتباعه نحو تحقيق الأهداف المرجوة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي