التطورات الديموغرافية وهيكل أعمار السكان «1من 3»

ربما كان أهم التطورات الديموغرافية العالمية هو تغير هيكل أعمار السكان. وتبرز هنا ثلاث مجموعات من التغيرات يسهل التنبؤ بها: تراجع إعالة الشباب "نسبة الأطفال في أعمار أقل من 15 سنة إلى السكان في سن العمل من 15 إلى 64 عاما"، وتحول أعداد المراهقين والشباب "تراوح أعمارهم بين 15 و24 عاما"، وارتفاع نسبة كبار السن "60 عاما وأكثر أو 65 عاما وأكثر". وترتبط كل هذه التغيرات بالاتجاهات العامة لأعداد المواليد والوفيات. على سبيل المثال، هبوط معدلات الوفيات في المراحل الأولى من التحول الديموغرافي غير متناسب بين الرضع والأطفال، وهو ما له دور فعال في انطلاق جيل من طفرة المواليد التي تمتد حتى تراجع الخصوبة. ومع تقدم جيل طفرة المواليد في العمر تشق موجة عمرية طريقها من خلال الهرم السكاني، من القاعدة "الرضع والأطفال" نحو الأقسام الوسطى "15-24 و25-59"، إلى القمم "60 فما فوق و80 فما فوق" ويشهد هيكل الأعمار تغيرات مماثلة نتيجة لمعدلات المواليد الآخذة في الارتفاع بحدة، مثل طفرات المواليد في كثير من الدول بعد الحرب العالمية الثانية.
ونتيجة للاختلاف الكبير في احتياجات الناس وقدراتهم على امتداد دورة الحياة، يمكن أن تكون عواقب التغيرات في هيكل الأعمار كبيرة. فالأطفال يستهلكون مخرجات أكثر مما ينتجون، ويلزمهم الحصول على كثير من الموارد للغذاء والملابس والسكن والرعاية الطبية والدراسة، وهم عادة لا يشتغلون. وعلى العكس من ذلك، غالبا ما يسهم الكبار بأكثر مما يستهلكون، من خلال العمل والادخار على حد سواء، ما يدعم تراكم رأس المال. وعادة ما يكون صافي مساهمة المسنين في موضع ما بين الاثنين. وغالبا ما يشتغل الناس بصورة أقل مع بلوغهم مرحلة متقدمة من العمر، وهم إما يدخرون أقل أو يستعينون بمدخراتهم لتمويل استهلاكهم في مرحلة التقاعد.

المكاسب الديموغرافية
يمكن للتغيرات في هيكل الأعمار أن تعزز النمو الاقتصادي بإتاحة إمكانية تحقيق ما يعرف بالمكسب الديموغرافي، تعطي دفعة لحصة الفرد من الدخل مقترنة بتراجع الخصوبة، الذي يخفف عبء إعالة الشباب، ويزيد نسبة العاملين والمدخرين في السكان، ويسمح بإعادة تخصيص الموارد من دعم الأطفال إلى بناء مصانع، وإرساء البنية التحتية، والاستثمار في التعليم والبحوث والتنمية.
كذلك غالبا ما يؤدي تراجع الخصوبة إلى تحرير المرأة من الإنجاب وتربية الأطفال، ما يدعم عرض العمالة. وبالمثل، غالبا ما ترتفع معدلات الادخار مع ارتفاع معدلات بقاء الكبار وتوقع فترات تقاعد أطول، ولا سيما في الدول التي تثني سياساتها ومؤسساتها الناس عن العمل بعد أوائل أو منتصف الستينات من العمر.
ويمثل المكسب الديموغرافي فرصة تحقق سرعة نمو الدخل والحد من الفقر. ويمكن حفزه من خلال سياسات وبرامج تخفض وفيات الرضع والأطفال وتعجل وتيرته بالتشجيع على خفض مستوى الخصوبة، على سبيل المثال، بتوسيع إمكانات الحصول على الخدمات الصحية الأولية والإنجابية وتعليم الفتيات. لكن المكسب الديموغرافي لا يتحقق آليا، إنما يعتمد تحقيقه على جوانب مهمة في البيئة الاقتصادية والقانونية مثل جودة الحوكمة والإدارة الاقتصادية الكلية والسياسة التجارية والبنية التحتية، وكفاءة أسواق العمل والمال، ومعدلات الاستثمار العام والخاص في الصحة والتعليم والتدريب.
وقد حقق عدد من البلدان مكاسب ديموغرافية في العقود الماضية، أبرزها النمور الشرق آسيوية "منطقة هونج كونج الصينية الإدارية الخاصة وجنوب كوريا وسنغافورة ومقاطعة تايوان الصينية"، التي خفضت مواليدها بصورة حادة في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20 واستفادت من المتنفس الاقتصادي بطريقة مذهلة من خلال سياسات التعليم والصحة الحصيفة، والإدارة الاقتصادية الكلية السليمة، والمشاركة بحرص مع الاقتصادات الإقليمية والعالمية. وفي هذه البلدان، يرجع نمو نصيب الفرد من الدخل سنويا الذي بلغ أكثر من نقطتين مئويتين "نحو ثلث المجموع" إلى تراجع الخصوبة والارتفاع الحاد المقابل في نسبة السكان في سن العمل خلال الفترة بين 1965 و2000. لكن على النقيض من ذلك، كان الأداء التنموي لدول إفريقيا جنوب الصحراء أقل بكثير لأنها لم تكن قادرة على الهروب من العبء الساحق من إعالة الشباب وسرعة النمو السكاني. ويشير ارتفاع نسب الإعالة في معظم أنحاء إفريقيا إلى أن انخفاض الخصوبة يحمل إمكانات كبيرة لحفز ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي.
وفي جنوب آسيا، حيث انخفضت معدلات الخصوبة بدرجة كبيرة بالفعل، تغلب على المكاسب الديموغرافية آفاق قصيرة الأجل وستعتمد بشكل كبير على الاستثمارات في رأس المال البشري وتوفير فرص العمل.

المد والجزر في تضخم أعداد الشباب
هناك علاقة قوية بين الرخاء الاقتصادي بعيد المدى وتجربة المراهقين والشباب الراشدين قريبة المدى. فإلى جانب أعداد الشباب الكبيرة، فإن ما يتميزون به من مهارات وعادات وطاقة وتوقعات يجعلهم عاملا قويا للتقدمين الاجتماعي والاقتصادي. ولا يزال استمرار معدلات البطالة المرتفعة -خاصة بين الشباب- يضعف تكوين روابط مثمرة ومستقرة بين الشباب وعالم العمل. ويذكرنا الربيع العربي الذي انطلق في بداية هذا العقد بواقع المخاطر الكبيرة التي يشكلها ارتفاع أعداد المراهقين والشباب الراشدين بين السكان على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المجتمعات التي لا تحقق مستويات المعيشة كما يتوقعها المواطنون... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي