Author

المدن الذكية وتحديات الاستثمار

|

لا شك أن المدن الذكية تقع اليوم في قلب الاقتصاد الرقمي، وكما كانت رحلة الاقتصاد في كل مرحلة من مراحله عبر التاريخ تبرز المدن العالمية وتختفي بقدر ما تظهر فيها سمات ذلك العصر، فبينما كانت نابولي والبندقية قلبي العالم التجاري في فترات ازدهار التجارة بين الشرق المزدهر والغرب المتثائب حينها، كانت باريس تستعد لتقفز إلى قلب الاقتصاد البرجوازي، ثم جاءت لندن لتصبح حاضرة العالم في عصر الثورة الصناعية، وهكذا كانت نيويورك مع ازدهار عصر الأسواق المالية والشركات العابرة للقارات. واليوم مع بروز الاقتصاد الرقمي تظهر مدن جديدة على الخريطة الاقتصادية فمن برشلونة إلى بوينس آيرس، ومن شانغهاي إلى ستوكهولم، تحاول كل مدينة أن تصنع نفسها كأهم تجربة عالمية وكعاصمة التحول الرقمي والحلول المستدامة من أجل إدارة أكثر كفاءة، وتقدم نوعية حياة أفضل.
وبالتأكيد فإن هذه الادعاءات نحو العاصمة الرقمية العالمية الأولى تعني ضمان تدفق مستمر من الأموال والاستثمارات، ومع شدة المنافسة العالمية القائمة حاليا للفوز بهذا المنصب الاقتصادي الرفيع تظهر مدن جديدة تماما مثل سونجدو التي تعد واحة كوريا الجنوبية للتقنية الفائقة التي تم إنشاؤها من الصفر، وتشير التقارير إلى تصدر العواصم الآسيوية الكبرى بالترتيب، سنغافورة، وطوكيو، وبكين، وشانغهاي قائمة الاستثمارات، بينما تظهر برشلونة، في الغرب كمدينة رائدة أوروبيا في مجال الترابط البيني، وتظهر "استراتيجية 2020 للاتحاد الأوروبي"، التي أطلقها البنك الأوروبي للاستثمار، لدعم الاستثمارات في المدن الذكية ووفقا لتقديرات عالمية فإن الاستثمارات ستزيد لتصل إلى 400 مليار دولار عام 2025.
لعل أهم التحديات التي تواجه المدن لدخول عالم الاقتصاد الرقمي مشكلة الازدحام بالسكان، ومشكلة البنى التحتية الرديئة. فالمدن التي بنت نفسها على أساس الملايين من المارة على الطرق ستجد صعوبات جمة في تطبيق السيارات ذاتية القيادة، وبينما يقول الخبراء إن الحلول الرقمية لهذه المدن تكمن في حل عقدة المواصلات، لكن هذا من شأنه أن يشجع على مزيد من الدخول للمدينة واستخدام السيارة، وبالتالي، سيزيد الازدحام على المدى الطويل، ومع استخدام حلول تعزز الرفاهية فستكون مكلفة في هذه المدن وبالتالي تصبح الحلول الرقمية في المدن المكتظة جدا في خدمة النخب ولن تحل القضايا الحضرية، وتؤدي الحلول الذكية إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية.
هناك قلق متزايد من أن الحلول الرقمية للمدن الذكية تتطلب تواصلا مستمرا وكثيفا مع أجهزة الاتصال الشخصية وهذا يقود إلى تضخم وغزارة البيانات الكبيرة كونها هي وقود التحول الرقمي. فمثلا مدينة سونجدو التي تعد مدينة فائقة الاتصال يوجد 500 جهاز يراقب كل زاوية ومرتبط بمحطة للتحكم، كما يتم تقديم خدمة نقل سلع البريد المادية بالطائرات الصغيرة، وبدلا من أن يكون دليلا على مزيد من الرفاهية فقد بدأ السكان يشككون في رفاهيتهم، ويرى البعض أن هناك خطورة كبيرة إذا وقعت تلك البيانات الرقابية والمعلومات الشخصية في أيدي شركات خاصة.
البنى التحتية أساسية لبناء المدن الذكية، وقد نجحت برشلونة حتى الآن في فرض اسمها أوروبيا كمدينة ذكية لأنها وضعت جزءا كبيرا من الإنفاق في بناء الشبكات وأجهزة الاستشعار وأنشأت 500 كيلومتر من كابلات الألياف البصرية لتطعيم أجهزة الاستشعار. في سنغافورة، تظهر أجهزة التعرف على الوجه في كل متر من المدينة، وبينما تظهر السيارة الكهربائية كأحد مكونات المدن الذكية فإن "شبكة المدينة" لن تكون قادرة على توفير الطاقة اللازمة لإعادة الشحن الجماعي في وقت واحد، إضافة إلى أن المعايير التنظيمية ونظم إعادة تدوير البطاريات غير موجودة.
هنا يظهر بوضوح أن المنافسة كبيرة على ما هي عاصمة الاقتصاد الرقمي في المستقبل، وما المدينة التي ستكون منصة عالمية للاستثمارات والشركات متعددة الجنسيات؟ فقط تلك المدن القادرة على حل المشكلات القائمة بسرعة هي الأكثر حظا في الوصول، على أنه يجب إدراك أن المدن الاقتصادية التي تتسيد المشهد العالمي بناء على مؤسسات اقتصاد القرن الـ20، قد تجد نفسها في المستقبل القريب خارج التاريخ تماما، إلا إذا استطاعت أن تحل المشكلات الأساسية في البنى التحتية وبسرعة تطور الاقتصاد الرقمي في العالم.

إنشرها