default Author

الصراعات الاقتصادية والعولمة والشعبوية

|


يتبادر إلى أذهان أهل الاقتصاد وصناع السياسات أنهم استخفوا استخفافا شديدا بهشاشة النموذج الحالي للعولمة. وتتخذ الثورة الشعبية التي يبدو أنها تجري الآن، أشكالا مختلفة ومتداخلة: إعادة تأكيد الهويات المحلية والوطنية، والمطالبة بقدر أكبر من السيطرة الديمقراطية والمساءلة، ورفض الأحزاب السياسية الوسطية، وانعدام الثقة في النخب والخبراء. كانت ردة الفعل العكسية هذه متوقعة. فقد حذر بعض خبراء الاقتصاد، وأنا منهم، من العواقب المترتبة على دفع العولمة الاقتصادية إلى ما وراء حدود المؤسسات التي تتولى تنظيم الأسواق وتثبيت استقرارها ومنحها الشرعية. وكان الإفراط في عولمة التجارة والتمويل، بهدف إيجاد أسواق عالمية متكاملة بسلاسة، سببا في تمزيق المجتمعات المحلية. والمفاجأة الأكبر هي ميل ردة الفعل السياسية المؤكد نحو اليمين. ففي أوروبا، كان القوميون والشعبويون من مناهضي الهجرة هم الذين ارتفعوا إلى الصدارة، مع تقدم اليسار في قِلة فقط من الأماكن مثل اليونان وإسبانيا. وكما يعترف إجماع المؤسسة الجديدة الناشئة على مضض، تعمل العولمة على إبراز الانقسامات الطبقية وزيادة حدتها بين أولئك الذين يملكون المهارات والموارد اللازمة للاستفادة من الأسواق العالمية وأولئك الذين لا يملكون. وتقليديا، كانت الانشقاقات في الدخل والطبقة، على النقيض من انشقاقات الهوية القائمة على العرق أو الدين، تعمل على تعزيز اليسار السياسي. لماذا إذن عجز اليسار عن تشكيل أي قدر يذكر من التحدي السياسي للعولمة؟ تتلخص إحدى الإجابات في أن الهجرة طغت على "صدمات" العولمة الأخرى. إذ يفضي التهديد المتصور الذي تفرضه التدفقات الجماعية من المهاجرين واللاجئين من الدول الفقيرة وتقاليدهم الثقافية شديدة الاختلاف إلى تفاقم انقسامات الهوية التي استغلها ساسة اليمين المتطرف بإتقان غير عادي. وتقدم لنا الديمقراطيات في أمريكا اللاتينية نقيضا ينبئنا بكثير. فقد خبرت هذه الدول العولمة في الأغلب باعتبارها صدمة مرتبطة بالتجارة والاستثمار الأجنبي، وليست صدمة هجرة. فأصبحت العولمة هناك مرادفة لما يسمى سياسات إجماع واشنطن والانفتاح المالي. وظلت الهجرة من الشرق الأوسط أو إفريقيا محدودة وذات تأثير سياسي ضئيل. ولهذا، اتخذت ردة الفعل الشعبوية في أمريكا اللاتينية -في البرازيل وبوليفيا والإكوادور، وعلى النحو الأكثر مأساوية في فنزويلا- شكلا يساريا. والقصة مماثلة في الاستثناءين الرئيسين لانبعاث اليمين في أوروبا -اليونان وإسبانيا. ففي اليونان، كان خط الصدع السياسي الرئيس سياسات التقشف التي فرضتها عليه المؤسسات الأوروبية وصندوق النقد الدولي. وفي إسبانيا، كان أغلب المهاجرين حتى وقت قريب مقبلين من بلدان مماثلة ثقافيا في أمريكا اللاتينية. وفي كل من البلدين، كان أقصى اليمين يفتقر إلى الأرض الخصبة التي يحظى بها في أماكن أخرى. ولكن التجربة في أمريكا اللاتينية وجنوب أوروبا ربما تكشف عن نقطة ضعف أكبر تعيب اليسار: غياب أي برنامج واضح لإعادة صياغة الرأسمالية والعولمة بما يتناسب مع القرن الـ21 فمن حزب سيريزا في اليونان إلى حزب العمال في البرازيل، فشل اليسار في إنتاج أفكار سليمة اقتصاديا تحظى بالشعبية على المستوى السياسي، بعيدا عن السياسات التحسينية مثل تحويلات الدخل. يتحمل الاقتصاديون والتكنوقراط على اليسار جزءا كبيرا من المسؤولية. فبدلا من المساهمة في مثل هذا البرنامج، تنازلوا بسهولة شديدة لأصولية السوق واعتنقوا مبادئها المركزية. والأسوأ من ذلك أنهم قادوا حركة العولمة المفرطة في مراحل حاسمة.
بوسعنا أن نقول، إن تتويج حرية حركة رأس المال -خاصة من النوع قصير الأجل- كقاعدة سياسية من قبل الاتحاد الأوروبي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وصندوق النقد الدولي، كان القرار الأكثر مصيرية بالنسبة للاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة. وكما أظهر راوي عبدالعال، الأستاذ في كلية هارفارد لإدارة الأعمال، أنه لم يكن هذا الجهد بقيادة منظري السوق الحرة، بل قاده في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الـ20 التكنوقراط الفرنسيون من أمثال جاك ديلور "في المفوضية الأوروبية" وهنري تشافرانسكي "في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" الذي كان على صلة وثيقة بالحزب الاشتراكي في فرنسا. وعلى نحو مماثل، في الولايات المتحدة، كان التكنوقراط بالاشتراك مع الحزب الديمقراطي الأكثر ميلا إلى اعتناق مبادئ جون ماينارد كينز، مثل لورنس سامرز، هم الذين قادوا حملة إلغاء القيود التنظيمية المالية.
ويبدو أن التكنوقراط الاشتراكيين في فرنسا استخلصوا من تجربة ميتران الفاشلة مع التدابير الكينزية في أوائل الثمانينيات أن الإدارة الاقتصادية المحلية لم تعد ممكنة، وأنه لم يكن هناك أي بديل حقيقي للعولمة المالية. وكان أفضل ما أمكن القيام به استنان قواعد تشمل أوروبا بالكامل والعالم، بدلا من السماح للدول القوية مثل ألمانيا أو الولايات المتحدة بفرض قواعدها. والنبأ السار هنا هو أن الفراغ الفكري على اليسار يجري شغله الآن، وأنه لم يعد هناك أي سبب للاعتقاد في طغيان ادعاء "عدم وجود بدائل". ولم يعد لدى الساسة على اليسار أسباب تذكر لعدم الاستفادة من قوة النيران الأكاديمية "المحترمة" في الاقتصاد.
الفارق الحاسم بين اليمين واليسار هو أن اليمين يتغذى على تعميق الانقسامات في المجتمع -"نحن" في مقابل "هم"- في حين يتغلب اليسار عندما يكون ناجحا على هذه الانقسامات من خلال الإصلاحات التي تقيم الجسور عبرها. ومن هنا كانت المفارقة أن الموجات المبكرة من الإصلاحات من قبل اليسار -الكينزية، والديمقراطية الاجتماعية، ودولة الرفاهية الاجتماعية- هي التي أنقذت الرأسمالية من نفسها، وبالتالي أصبحت زائدة على الحاجة فعليا. وفي غياب مثل هذه الاستجابة مرة أخرى، سيترك المجال مفتوحا على مصراعيه للشعبويين وجماعات اليمين المتطرف، التي ستقود العالم -كما كانت تفعل دوما- إلى انقسامات أعمق وصراعات أكثر توترا.

خاص بـ"الاقتصادية"
بروجيكت سنديكيت

إنشرها