Author

الشركات العملاقة والإمبراطوريات

|
أستاذ جامعي ـ السويد


كثيرا ما نقرأ في دراسات الريادة والإدارة والاقتصاد، أن الشركات تشبه الكائن الحي أو بالأحرى تتم مقارنتها بالإمبراطوريات التي سادت ثم بادت.
ونقرأ أيضا أن كل شركة تمر بمراحل تشبه حياة الإنسان أو المسيرة التاريخية لأي إمبراطورية في التاريخ.
وهذا معناه أن الشركات بصورة عامة تولد وتنمو وتصل ريعان شبابها، ثم تكهل وتموت. منها ما تقبع في مرحلة الشباب اليافع فترة زمنية قصيرة. ومنها ما لا تصل إلى هذه المرحلة. ومنها ما تدوم نعمة الشباب عليها لفترة طويلة قبل الدخول في مرحلة الأفول.
بصورة عامة، المقارنة هذه لها ما يبرهنها على أرض الواقع. بيد أن التشبيه، رغم صحته، بدأ يأخذ منحى مختلفا في عصر التكنولوجيا الفائقة.
تقود العالم اليوم شركات كبيرة، لها كثير من الشبه مع الإمبراطوريات الغابرة. ما يفرقها عن الإمبراطوريات هو أنها لا تحتاج إلى جيوش جرارة لبسط هيمنتها.
التاريخ شهد إمبراطوريات جبارة تأتي في مقدمتها الإمبراطورية الرومانية. في أوج عظمتها، أي في القرن الرابع الميلادي، كانت هذه الإمبراطورية تغطي مساحة تصل إلى 4.5 مليون كيلومتر مربع.
وشهد العصر الحديث إمبراطورية جبارة أخرى، وهي الإمبراطورية البريطانية. وأظن أن القارئ الكريم لابد أنه على علم بالمقولة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس،" للدلالة على المساحة الشاسعة من الأرض التي كانت تبسط سيطرتها عليها.
ومن الإمبراطوريات المترامية الأطراف، هناك الأكدية والأموية والعباسية والعثمانية - هذا فيما يخص منطقة الشرق الأوسط.
ليس هناك تعريف محدد عن: متى في استطاعتنا تسمية دولة ما إمبراطورية؟ إلا أن المؤرخين بصورة عامة يستندون إلى تعريف الحضارة لوضع معايير لما يمكن أن نطلق عليه "إمبراطورية".
أي حضارة لا بد أن يكون تأثيرها مستديما، أي أن تعمر فترة طويلة. ويكون التأثير ظاهرا وملموسا في الفنون، التي تعد من أرقى ثمار الحضارة الإنسانية. والتأثير يمكن الباحثين من تسليط الضوء على المجتمع من خلال مساهمته في الزراعة وتأسيس المدن وربط الأمصار بعضها مع بعض، والسيطرة عليها بواسطة ماكينة عسكرية وسياسية متجانسة.
وعلينا التذكير بأن كل إمبراطورية يجب أن تكون لها حضارة خاصة بها كي تستحق لقب الإمبراطورية. ولكن ليس كل حضارة في إمكاننا أن نطلق عليها إمبراطورية.
لو ألقينا نظرة فاحصة على الإمبراطوريات الست التي ذكرتها أعلاه، لرأينا أن أغلب العناصر التي تشكل الحضارة كمفهوم إنساني تنطبق عليها.
وقبل أن أعرج على الشركات وربطها بالإمبراطوريات، علينا التركيز وباختصار شديد على الدولة "الإمبراطورية" الأموية.
قلما يدور في خلدنا أن الدولة الأموية ربما هي الإمبراطورية الوحيدة في التاريخ التي تركت بصمات هائلة على الحضارة الإنسانية رغم قصر عمرها. الأمويون حكموا نحو 90 عاما، بيد أن تأثيرهم قد يفوق ما لإمبراطوريات عمرت قرونا طويلة.
وهل يحق لنا أن نطلق لقب "الإمبراطورية" على شركة محددة؟ نعم. شركات مثل "مايكروسوفت وجوجل وفيسبوك وأبل" ترقى إلى مصاف الإمبراطوريات. أغلب المعايير التي ذكرتها أعلاه من حيث التأثير في حياة المجتمع تنطبق عليها.
أما إن أخذنا مدى التأثير الجغرافي وربط الأمصار والدول والمجتمعات في عين الاعتبار، إضافة إلى الوقع والبصمات التي تركتها على الفنون الإنسانية وفي فترة لا تتجاوز ثلاثة عقود، فإننا نكون أمام إمبراطوريات لم يشهد التاريخ لها مثيلا.
لا أريد الدخول في تفاصيل التأثير الهائل الذي أحدثته شركات مثل هذه في الفنون. خذ التأثير المبين لشركة "يوتيوب" في تواصلنا مع الفنون البشرية في كل بقعة تقريبا من كوكبنا الشاسع.
وسطوة الشركات الخوارزمية هذه سطوة مهولة على حياتنا وفي أدق التفاصيل. لا أظن أن أي إمبراطورية في التاريخ كان لها مثل هذا التأثير في حياتنا ليس كمجتمعات وحسب بل كأفراد.
وإن أخذنا القيمة السوقية لهذه الشركات كقياس، فسنرى أنها أكثر ثراء من قارة أو ربما قارتين معا.
ولكن هل ستعمر قرونا كما عمرت كثير من الإمبراطوريات أم أنها ستندثر وتموت قبل الاحتفال بالذكرى الـ 100 لمولدها كما كان شأن الدولة الأموية؟
يبدو أن عصر الإمبراطوريات والحضارات حسب المفهوم السائد في التاريخ أخذ في الانحسار.
لا أظن أن الشركات العملاقة "الإمبراطوريات الجديدة" ستعمر طويلا، وستكون محظوظة لو استمرت تسعة عقود مثل الدولة الأموية.
والوصول إلى السبب ليس أمرا عسيرا. كي تبني شركة عملاقة "إمبراطورية" اليوم، كل ما تحتاج إليه هو امتلاك ناصية الخوارزميات كعلم ومعرفة.
الصين امتلكت هذه الناصية، ولها شركاتها الوطنية الخاصة بها، وهي بمنزلة إمبراطوريات ومنها "هواوي" مثلا.
اليوم لم نعد بحاجة إلى جيوش جرارة ومساحات شاسعة لإقامة إمبراطورية. إنه عصر تكنولوجيا المعلومات. كلما زاد كم المعلومات التي لدينا، وكلما زاد تمكننا من تنظيمها وترتيبها في أنماط خوارزمية، زادت سطوتنا، بغض الطرف عن حجمنا كدولة أو مجتمع.
في إمكاننا التحول إلى إمبراطورية لو صار في حوزتنا كم هائل من المعلومات وتمكننا من «خورزمت» هذا الكم لخدمة مصالحنا.

إنشرها