الخبراء الاقتصاديون.. هل يدافعون عن الاقتصاد العالمي؟

عندما ذهب كتابي "هل تجاوزت العولمة الحدود؟" إلى المطبعة قبل ما يقرب من عقدين من الزمن، اقتربت من رجل اقتصاد معروف لأسأله إذا كان سيوافق على التوقيع على الغلاف الخلفي لكتابي بكلمة تأييد. وزعمت في الكتاب أن الإفراط في "العولمة" في غياب استجابة حكومية أكثر تجانسا سيفضي إلى تعميق الانقسامات المجتمعية، وتفاقم المشكلات المرتبطة بالتوزيع، وتقويض المساومات الاجتماعية المحلية ـــ وهي الحجج التي تحولت إلى بدهيات عامة منذ ذلك الحين.
الواقع أن رجل الاقتصاد المعروف رفض طلبي، قائلا إنه لا يختلف حقا مع أيّ جزء من التحليل، لكنه خشي أن يوفر كتابي "الذخيرة للهمجيين". سيستغل أنصار تدابير الحماية الحجج التي يسوقها الكتاب حول سلبيات "العولمة"؛ لتوفير الغطاء لأجندتهم الأنانية الضيقة.
ما زلت أتلقى ردة الفعل نفسها من زملائي الاقتصاديين. فسيرفع أحدهم يده مترددا ويسألني: ألا تخشى أن يُساء استغلال حججك على النحو الذي يخدم زعماء الدهماء والشعبويين الذين تشجبهم؟
الواقع أن خطر اختطاف حججنا في المناقشة العامة من قِبَل أولئك الذين نختلف معهم قائم دائما. ولكني لم أفهم قط لماذا يعتقد كثير من الاقتصاديين أن هذا يعني أننا ينبغي لنا تحريف حجتنا بشأن التجارة في اتجاه بعينه. تبدو الفرضية الضمنية هنا أن الهمجيين لا وجود لهم إلا على جانب واحد من المناقشة الدائرة حول التجارة. ففي الظاهر لا بد أن يكون أولئك الذين يُعرِبون عن عدم رضاهم عن قواعد منظمة التجارة العالمية أو الاتفاقيات التجارية من أنصار تدابير الحماية المتوحشين، في حين ينتمي أولئك الذين يدعمونها إلى جانب المسالمين بكل تأكيد.
الحق أن عديدا من المتحمسين للتجارة ليسوا أقل تحفزا بفعل أجندات ضيقة أنانية. فمن المؤكد أن شركات الأدوية التي تسعى إلى فرض قواعد أكثر صرامة في إدارة براءات الاختراع، أو المصارف التي تدفع في اتجاه القدرة غير المقيدة على الوصول إلى الأسواق الخارجية، أو الشركات المتعددة الجنسيات، التي تسعى إلى إقامة محاكم تحكيم خاصة، ليست أكثر احتراما للمصلحة العامة من أنصار الحماية. وعلى هذا فعندما يظلل أهل الاقتصاد حججهم، فإنهم بذلك يحابون فعليا مجموعة من الهمجيين على حساب الآخرين.
منذ فترة طويلة، كانت القاعدة غير المعلنة للمشاركة العامة بين الاقتصاديين تتلخص في ضرورة مناصرة التجارة والابتعاد قدر الإمكان عن التفاصيل الدقيقة. وقد أفضى هذا إلى وضع غريب. ذلك أن النماذج المعتادة للتجارة التي يستعين بها خبراء الاقتصاد تسفر عادة عن تأثيرات توزيعية حادة: فالخسائر في الدخل من جانب مجموعات معينة من المنتجين أو فئات العمال، تمثل الجانب الآخر من "مكاسب التجارة". وكان خبراء الاقتصاد يعرفون منذ فترة طويلة أن إخفاقات السوق ــ بما في ذلك أسواق العمل المختلة، وأوجه القصور في أسواق الائتمان، والعوامل الخارجية المرتبطة بالمعرفة أو البيئة، والاحتكارات ــ من الممكن أن تتداخل مع جني هذه المكاسب.
وكانوا على علم أيضا بأن الفوائد الاقتصادية المترتبة على اتفاقيات التجارة، التي تتجاوز الحدود، وتعمل على تشكيل القواعد التنظيمية المحلية ـــ كما هي الحال مع تشديد قواعد منح البراءات أو المواءمة بين متطلبات الصحة والسلامة ـــ غامضة جوهريا.
ومع ذلك، يمكننا أن نعتمد على ترديد خبراء الاقتصاد عجائب الميزة النسبية والتجارة الحرة كالببغاوات كلما تحدث أحد عن الاتفاقيات التجارية. وقد دأبوا على التخفيف من المخاوف المرتبطة بالتوزيع، على الرغم من أنه بات من الواضح الآن أن التأثير التوزيعي، ولنَقُل - على سبيل المثال - الناجم عن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، أو انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، كان كبيرا بين المجموعات الأكثر تأثرا بشكل مباشر في الولايات المتحدة. وقد بالغوا في تقدير حجم المكاسب الكلية الناجمة عن الاتفاقيات التجارية، وإن كانت مثل هذه المكاسب ضئيلة نسبيا منذ تسعينيات القرن العشرين على الأقل. كما أيدوا الدعاية التي تصور الاتفاقيات التجارية اليوم على أنها "اتفاقيات تجارة حرة"، حتى على الرغم من أن آدم سميث وديفيد ريكاردو ربما يتقلبان في قبريهما ألما إذا اطلعا على بنود اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ.
إذا تحرينا الصدق بشأن التجارة، فلا بد أن نعترف بأن هذا التردد كلف أهل الاقتصاد مصداقيتهم بين عامة الناس. والأسوأ من هذا أنه زَوَّد خصومهم بالذخيرة. إن فشل أهل الاقتصاد في تقديم الصورة الكاملة بشأن التجارة، مع كل أشكال التمييز والمحاذير الضرورية، تسبب في تيسير جهود تشويه التجارة، ظلما في أكثر الأحيان، بكل أشكال التأثيرات السيئة.
على سبيل المثال، بقدر ما أسهمت التجارة في اتساع فجوة التفاوت، فإنها لا تمثل سوى عامل واحد بين كل العوامل المساهمة في هذا الاتجاه العريض ــ وهي في كل الأحوال بسيطة التأثير نسبيا، مقارنة بالتكنولوجيا. ولو كان أهل الاقتصاد أكثر صراحة في الإفصاح عن الجانب السلبي للتجارة، فربما كانوا سيحظون بقدر أكبر من المصداقية كوسطاء صادقين في هذه المناقشة.
على نحو مماثل، ربما كنا سنحظى بمناقشة عامة أكثر استنارة ووعيا حول الإغراق الاجتماعي لو كان الاقتصاديون على استعداد للاعتراف بأن الاستيراد من دول لا تحترم ولا تحمي حقوق العمالة يثير بالفعل تساؤلات خطيرة حول عدالة التوزيع. وربما كان من الممكن آنذاك تمييز الحالات، حيث تعكس الأجور المنخفضة في الدول الفقيرة انخفاض الإنتاجية عن الحالات التي تمثل انتهاكات مؤكدة للحقوق. وربما كان القسم الأكبر من التجارة، الذي لا يثير مثل هذه التخوفات سيصبح معزولا بشكل أفضل عن اتهامات "التجارة غير العادلة".
بالمثل، لو أصغى أهل الاقتصاد لمنتقديهم الذين حذروا من التلاعب بالعملة، واختلالات التوازن التجاري، وخسارة الوظائف، بدلا من التمسك بنماذج افترضت عدم وجود مثل هذه المشكلات، فلربما كانوا الآن في وضع أفضل لمواجهة المزاعم المفرطة بشأن التأثير السلبي الناجم عن الاتفاقيات التجارية في تشغيل العمالة.
باختصار، لو صرح أهل الاقتصاد بالمحاذير، وأسباب عدم اليقين، والشكوك في قاعات الدرس، فربما كانوا سيتحولون إلى مدافعين أفضل عن الاقتصاد العالمي. ولكن من المؤسف أن حماستهم في الدفاع عن التجارة ضد أعدائها أدت إلى نتائج عكسية. وإذا كان زعماء الدهماء الذين يطلقون ادعاءات فارغة بشأن التجارة يجدون الآن من يصغي إليهم ـــ فإن أنصار التجارة الأكاديميين يستحقون جزءا من اللوم عن هذا على الأقل.

خاص بـ"الاقتصادية" بروجيكت سنديكيت

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي