Author

البيانات الضخمة .. وإدارة المدن

|
اشترى محمد قطعة أرض سكنية في أحد أحياء شمال الرياض، وعندما أراد بناء الأرض وبدأ بالحفر لوضع أساسات فيلا الحلم التي ادخر لمدة 20 سنة لكي يبنيها، تفاجأ بأن الأرض تحوي مياها بدأت تظهر كلما حفر أكثر، وهنا كان القرار بمحاولة التخلص من المياه عن طريق شفطها بالناقلات المخصصة لذلك، احتاج محمد إلى 70 ناقلة كبيرة لخفض مستوى المياه وليس تجفيفها بشكل نهائي، بعد ذلك احتاج إلى تكاليف إضافية لمعالجة هذه الرطوبة هندسيا، لكيلا تؤثر في أساسات البناء، وبذلك أضحت تكلفة معالجة هذه المشكلة فقط التي لم يحسب لها حسابا قرابة 150 ألف ريال، وهذا المبلغ تم صرفه، لأنه لم يعرف فقط معلومة واحدة قبل شراء الأرض، وهي وجود مياه جوفية في الحي، وبلا شك لو علم بها أو سأل عنها لانعكست تكاليف هذه المشكلة على قيمة الأرض ولفاوض بشكل أفضل، بسبب علمه المسبق بالإشكال الذي سيواجهه وتكاليف العلاج الباهظة له. وهذا مثال بسيط جدا على أثر المعلومات والبيانات وكمية الخسائر المالية والصحية والاجتماعية التي من الممكن أن يتكبدها المجتمع، بسبب غياب البيانات السليمة والمعلومات التي تستخرج منها ويبنى عليها القرارات، وما محمد وحالته إلا نموذج من آلاف النماذج التي كانت تحتاج إلى مصدر رسمي ومعلومة واضحة تجعله يتجنب هذه المخاطرة التي لم يتوقعها لا هو ولا غيره، ولذلك عمد كثير من المدن اليوم إلى رفع مستوى الشفافية في إظهار المعلومات والبيانات، ولا سيما مع وجود التقنيات الحديثة والمتقدمة التي جعلت من جمع هذه البيانات ومن ثم تحليلها وعرضها للجهات المختلفة لاتخاذ القرارات المبنية على الأدلة، مهمة ليست بالصعبة. وفقا لروب كيتشن فالبيانات الضخمة لها ثلاث خصائص، أولها الحجم الضخم، الذي يمكن من خلال تحليلها التوصل إلى كثير من المعلومات المفيدة في شتى المجالات، وثانيها السرعة، حيث إن البيانات الضخمة من المفترض أن تعطيك تحديثات مباشرة وسريعة دون تأخير، وثالثها التنوع، حيث يمكن أن تكون على شكل أرقام أو فيديو أو صور وغيرها من المحتويات القابلة للتحليل والاستفادة منها، وبذلك يمكن من خلال هذه البيانات تكوين تصور واضح عن المدينة ونواحيها المختلفة وكيفية إداراتها بشكل كفؤ ورفع مستوى المعيشة فيها، ومن الأمثلة العالمية على هذا الأمر ما عملته مدينة سانتا كلارا في الولايات المتحدة، حيث تم وضع أجهزة استشعار في كل أنابيب المياه التي تغذي المناطق العامة لمراقبة أي تسريبات أو مبالغة في الاستخدام، ووضع إجراءات الترشيد المناسبة ومن المتوقع أن يتم توفير أكثر من 660 مليون لتر من المياه، كذلك عملت مدينة شيكاغو الأمريكية على عمل تحليل شامل لبيانات المنازل، وذلك لتحديد تلك التي من المرجح أن تكون ملوثة بالرصاص الضار بالصحة وتوعية أصحابها بأهمية تحجيم هذا الضرر، كما عملت لندن في بريطانيا على استخدام بيانات النقل العام والمستخدمين له، وذلك لرفع كفاءة الخدمة وفتح مسارات جديدة وعمل خطط توسعة للاتجاهات التي يوجد عليها طلب كثيف، وفي ريو دي جانيرو في البرازيل قامت شركة IBM بتصميم برنامج يربط بيانات أكثر من 30 جهة حكومية، بحيث لا يحتاج المواطن إلى تزويد كل جهة بمعلوماته في كل مرة، وبذلك يتم توفير كثير من الجهد والوقت ورفع مستوى كفاءة الخدمات، كما قامت مدينة بوينس آيرس في الأرجنتين، بمتابعة وإدارة إنارة المدينة إلكترونيا، وبذلك تم خفض تكاليف التشغيل بمقدار 50 في المائة، كما قامت إدارة الضرائب في إسبانيا بعمل مسح وجمع بيانات سريع عن طريق طائرات الدرونز "بدون طيار"، وذلك لمعرفة الأراضي الفضاء والمباني الجديدة التي بنيت وحصلت في المقابل على 1.2 مليار يورو، بسبب هذه الاكتشافات التي أدت إلى فرض ضرائب أكثر واقعية على أصحاب الممتلكات العقارية، التي لم توثق رسميا أعمال البناء على أراضيها. الخلاصة، هناك كثير من الإشكالات التي نعانيها من حيث الكفاءة والهدر المالي والاقتصادي للموارد في مدننا، ولذلك أضحت البيانات الضخمة لإدارة المدن أمرا مهما ومطلبا ملحا حتى لا يتحمل المواطن تكاليف هذا الهدر عن طريق انخفاض جودة الخدمات والحياة في المدن، وكذلك يتمكن المسؤولون من اتخاذ قراراتهم بناء على أدلة ومعلومات واقعية، كما أن التطبيقات لهذه البيانات وأساليب جمعها وإدارتها ليس لها حدود، كما وضحت الأمثلة السابقة من خلال تجارب واقعية لمست الأثر المهم لإدارة المدن بشكل أكثر احترافية وبالاعتماد على البيانات الضخمة، والمهم أن تكون هذه المعلومات متاحة للعامة، ليتمكنوا من اتخاذ القرارات الحكيمة، وللمتخصصين لتثري أبحاثهم وتشجعهم على التحري والاستقصاء وحل كثير من المعضلات التي فقط كانت تحتاج إلى بيانات ليتم التوصل إلى الخلل بشكل دقيق.
إنشرها