تطورات في مؤشرات الاقتصاد العالمي «2 من 2»

يركز الفصل الثالث على التكاليف الاقتصادية لتغير المناخ والحاجة إلى توجه استثمارات لسبل التكيف معه في البلدان منخفضة الدخل. غير أن الاقتصادات المتقدمة لن تكون محصنة من التطورات المناخية المقبلة ـــ سواء من خلال الآثار المباشرة في بعض المناطق المتقدمة، مثل المناطق الساحلية في الولايات المتحدة، أو تداعيات الهجرات الجماعية وعدم الاستقرار الجغرافي ـــ السياسي في البلدان الأفقر. وراء تطورات النمو الإيجابية الأخيرة في مؤشرات الاقتصاد العالمي، من المتوقع أن يسجل نصيب الفرد من معدلات النمو الاتجاهي الأطول أجلا في كثير من الاقتصادات مستوى أقل من معدلات النمو الاتجاهي السابقة. وعلى سبيل التحديد، يواجه معظم الاقتصادات المتقدمة معدلات نمو متوسطة الأجل أقل بكثير مما كانت عليه في العقد السابق على الأزمة المالية العالمية التي وقعت في الفترة 2007 ـــ 2009. وتتفاوت أسباب هذا التباطؤ باختلاف البلدان. فبالنسبة لبعض الاقتصادات، ومن أبرزها الاقتصاد الصيني، يمثل تراجع النمو طويل الأجل نتيجة طبيعية لاستعادة توازن النمو وتحقيق التقارب المستهدف. وبالنسبة للاقتصادات الصاعدة المصدرة للسلع الأولية، التي استفادت من سرعة نمو قطاع التصنيع الصيني في الأعوام السابقة، يتعين استحداث نماذج جديدة للنمو في مواجهة الانخفاض الدائم في أسعار الصادرات. وبالنسبة للاقتصادات المتقدمة، هناك دور كبير يقوم به بطء نمو الإنتاجية المتوقع وشيخوخة القوى العاملة. ويمكن أن يكون انخفاض معدلات النمو الاتجاهي للفرد مشكلة لعدة أسباب؛ فهي تزيد من صعوبة رفع المستويات المعيشية للفقراء ومشقة إعادة توزيع الموارد في مواجهة التغيرات الاقتصادية، كما تردع الاستثمارات المعززة للإنتاجية، وتضر باستمرارية شبكات الأمان الاجتماعي الممولة حكوميا، وتغذي الشعور بالسخط السياسي لكونها تطيح بالآمال في المستقبل وتضعف الإيمان بعدالة النتائج الاقتصادية. وبدورها، يمكن أن تؤدي هذه العوامل إلى الانحراف عن مسار التنبؤات الأساسية.
وتفرض فجوات التعافي السابقة تحديا أمام صناع السياسات يدفعهم إلى اتخاذ إجراءات لمواجهته؛ إجراءات يجب أن تتم الآن والفرصة مواتية. وتختلف الإصلاحات الهيكلية المطلوبة باختلاف البلدان، ولكن كل البلدان أمامها متسع كبير لاتخاذ إجراءات تعزز الصلابة الاقتصادية إلى جانب النمو الممكن. وبالنسبة لبعض البلدان التي أغلقت فجوات الناتج بالفعل، حان الوقت للتفكير في تنفيذ الضبط المالي تدريجيا، لتخفيض مستويات الدين العام المتضخمة وإيجاد هوامش وقائية يمكن الاستعانة بها في فترة الركود المقبلة. ويمكن أن تتمخض عن هذه الإجراءات تداعيات سلبية في الخارج، على النحو الذي نناقشه في الفصل الرابع. ولكن البلدان التي تمتلك حيزا ماليا أكبر يمكن أن تعوِّض انخفاض الطلب العالمي؛ بأن تقوم، على سبيل المثال، باستثمارات ضرورية في البنية التحتية المنتجة أو الإنفاق من المالية العامة لدعم الإصلاحات الهيكلية. ويمكن أن تساعد هذه الحزمة المالية العالمية أيضا على تخفيض الاختلالات العالمية المفرطة.
وما يشكل أهمية بالغة للنمو الاحتوائي والقابل للاستمرار توجيه استثمارات لتنمية الموارد البشرية في كل مراحل دورة الحياة، خاصة مرحلة الشباب. فيمكن أن يؤدي تحسين التعليم والتدريب وإعادة التدريب إلى تيسير تكيف سوق العمل مع التحول الاقتصادي المستمر على المدى الطويل ـــ الذي يأتي من كل المصادر، وليس فقط من التجارة ـــ ورفع الإنتاجية. فعلى المدى القصير، ينبغي توجيه اهتمام عاجل لبطالة الشباب المفرطة التي يعانيها كثير من البلدان. فمن شأن الاستثمار في رأس المال البشري أن يساعد على رفع نصيب العمالة من الدخل، على عكس الاتجاه العام السائد في العقود الأخيرة ــــ ولكن على الحكومات أن تنظر أيضا في تصحيح التشوهات التي ربما تكون قد أحدثت ضعفا مفرطا في القوة التفاوضية للعمالة. وخلاصة القول إن السياسة ينبغي أن تشجع وجود بيئة مؤدية إلى نمو قابل للاستمرار في الأجور الحقيقية.
وهناك عدة مشكلات عالمية تتطلب تحركا متعدد الأطراف. ومن أولويات التعاون الذي يحقق النفع المتبادل لكل الأطراف تعزيز النظام التجاري العالمي، وتحقيق تقدم أكبر في تحسين التنظيم المالي، وتعزيز شبكة الأمان المالي العالمية، والحد من التحايل الضريبي الدولي، ومكافحة المجاعات والأمراض المعدية، وتخفيف انبعاثات غازات الدفيئة قبل أن تتسبب في ضرر لا يمكن تداركه، ومساعدة البلدان الأفقر ـــ التي لا تدخل في عداد البلدان المتسببة في انبعاثات كبيرة ـــ على التكيف مع تغير المناخ. وإذا كانت قوة الصعود الاقتصادي الحالي تجعل من الفترة الراهنة فرصة مثالية للإصلاحات المحلية، فإن اتساع نطاق هذا الصعود يجعل التعاون متعدد الأطراف عملا في حينه. وينبغي أن يتحرك صناع السياسات بينما لا تزال الفرصة سانحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي