default Author

دروس في النظرية والسياسة الاقتصادية «3 من 3»

|

يتعلل المؤيدون لمنهج "التدخل الواحد" بأنه المنهج الأمثل لأنه الأقل تشويها للاقتصاد. وبالطبع، فإن سبب وجود السياسة النقدية أصلا ــ أي السبب وراء اتخاذ الحكومة إجراءات للتدخل في الاقتصاد ــ هو أننا لا نعتقد أن الأسواق يمكن أن تحدد بمحض إرادتها سعر الفائدة الصحيح للأجل القصير. ولو أن الأمر كان كذلك، لكنا تركنا للأسواق الحرة مهمة تحديد هذا السعر. والغريب أن كل مسؤولي البنوك المركزية تقريبا يوافقون على ضرورة أن نتدخل في تحديد ذلك السعر، ولكن بعضهم غير مقتنع بضرورة التدخل الاستراتيجي في أسعار أخرى، على الرغم من علمنا في ضوء النظرية العامة للضرائب والنظرية العامة للتدخل في السوق، بأن التدخل في تحديد سعر واحد فقط ليس هو المنهج الأمثل.
وعند تحويل تركيزنا التحليلي إلى الائتمان وإدخال المخاطر ضمن تحليلاتنا بشكل صريح، تتضح لنا الحاجة لاستخدام أدوات متعددة. والواقع أن علينا استخدام كل الأدوات المتاحة لنا بشكل عام. وغالبا ما يضع مختصو الاقتصاد النقدي خطا فاصلا بين أدوات السلامة الاحترازية الجزئية، والسلامة الاحترازية الكلية، وأدوات السياسة النقدية التقليدية. وفي الكتاب الذي اشتركت في تأليفه مع بروس جيرينوولد ويحمل عنوان "نحو نمط جديد للاقتصاد النقدي"، نرى أن هذا التمييز مصطنع، إذ إن الحكومة تحتاج إلى الاستفادة من هذه الأدوات على أساس منسق ــ وسأعود إلى هذه النقطة بعد قليل.
ونحن لا نستطيع، بالطبع، "تصحيح" كل فشل سوقي. غير أن حالات الفشل الشديد ــ التي تصيب الاقتصاد الكلي ــ ستظل تتطلب منا التدخل. وقد أشرت أنا وبروس جرينوولد إلى أن الأسواق لا تصل أبدا إلى مستوى "كفاءة باريتو" إذا كانت المعلومات ناقصة أو متباينة، أو شابت العيوب أسواق المخاطر. ولأن هذه القيود تتوافر دائما، نجد أن الأسواق لا تصل أبدا إلى مستوى "كفاءة باريتو". وقد أبرزت الأبحاث الأخيرة أهمية هذه القيود وغيرها للاقتصاد الكلي ــ وإن كانت الرؤى العميقة التي طرحها هذا العمل المهم لم تدخل على النحو الملائم حتى الآن في نماذج الاقتصاد الكلي الشائعة، أو في المناقشات الأساسية التي تدور حول السياسات.
تساعد هذه الرؤى النظرية أيضا على فهم السبب وراء خطأ الافتراض الذي كان شائعا بين بعض الاقتصاديين بأن التدخلات السعرية أفضل من التدخلات الكمية. فهناك ظروف عديدة تجعل التدخلات الكمية سببا في تحسين أداء الاقتصاد.
يذهب إطار من أطر السياسات شاع استخدامه في بعض الدوائر إلى أن السيطرة على النظام الاقتصادي تظل ممكنة ما دام هناك عدد من الأدوات مساو لعدد من الأهداف، وأن أفضل سبيل لإدارة الاقتصاد في مثل هذه الظروف هو أن تكون هناك مؤسسة مسؤولة عن تحقيق هدف واحد باستخدام أداة واحدة. "وحسب هذا الرأي، تمتلك البنوك المركزية أداة واحدة ــ هي سعر الفائدة ــ وهدفا واحدا ــ هو التضخم. وقد أوضحنا منذ قليل خطأ تقييد السياسة النقدية بأداة واحدة".
وقد يكون لهذا التقسيم مزايا من منظور الوكالة أو المنظور البيروقراطي، لكنه لا يعد منطقيا من منظور إدارة السياسة الاقتصادية الكلية ــ التي تركز على النمو والاستقرار والتوزيع في عالم يسوده عدم اليقين. وينبغي أن يتوافرالتنسيق بين كل القضايا وكل الأدوات المتاحة لنا. والتنسيق الوثيق أمر لازم بين السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. ذلك أن التوازن الطبيعي الذي يمكن أن ينشأ عن سيطرة أطراف مختلفة على أدوات مختلفة تركز على أهداف مختلفة، يكون توازنا بعيدا تماما عن الوضع الأمثل لتحقيق الأهداف الاجتماعية الشاملة. ويمكن تعزيز الاستقرار الاقتصادي، على سبيل المثال، بتحسين التنسيق ــ واستخدام مزيد من الأدوات.
يتعين أن يكون واضحا أننا كنا نستطيع القيام بجهد أكبر بكثير لمنع وقوع هذه الأزمة وتخفيف آثارها. وينبغي أن يكون واضحا أيضا أننا نستطيع القيام بجهد أكبر بكثير لمنع وقوع أزمة تالية. ومع ذلك، فمن خلال هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات المماثلة، بدأنا على الأقل في تحديد إخفاقات السوق الكبيرة بالفعل، وكذلك المؤثرات الخارجية الكبيرة على الاقتصاد الكلي، وأفضل السياسات التي يمكن استخدامها في التدخل لتحقيق النمو المرتفع وتعزيز الاستقرار وتحسين توزيع الدخل.
وللنجاح في هذا المسعى، يجب أن نذكِّر أنفسنا دائما بأن الأسواق لن تحل مشكلاتها بنفسها، كما أن هذه المشكلات لن تحل باستخدام أداة واحدة للتدخل مثل أسعار الفائدة. وقد أثبت الزمن صحة هذه الحقائق مرارا وتكرارا خلال القرن والنصف الماضيين.
وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تنطوي عليها المشكلات الاقتصادية الراهنة، فإن الإقرار بها سيتيح لنا الاستفادة من فرصة كبيرة سانحة في هذه الفترة المثقلة بآثار الصدمة الاقتصادية، وهي فرصة إحداث ثورة في النماذج الاقتصادية المعيبة، وربما الخروج من دورة أزمات طويلة الأمد.

إنشرها