الاستقرار المالي العالمي .. وأهمية تحديد السياسات
أصبح النظام المالي العالمي أكثر أمانا واستقرارا عما كان عليه عند صدور تقييمنا الأخير منذ ستة أشهر. فقد زاد زخم النشاط الاقتصادي، وتحسنت الآفاق المتوقعة وتعززت الآمال في إنعاش الاقتصاد. ولا تزال الأوضاع النقدية والمالية على درجة عالية من التيسير. ومع السياسات الجديدة الجاري مناقشتها في الولايات المتحدة، زاد تفاؤل المستثمرين ما رفع أسعار الأصول. وهذه بعض الاستنتاجات التي خلص إليها آخر عدد من تقرير الاستقرار المالي العالمي.
ولكن من المهم أن تحافظ حكومات الولايات المتحدة وأوروبا والصين والبلدان الأخرى على توقعات المستثمرين عن طريق اعتماد مزيج السياسات الصحيح. ويعني هذا تجنب اختلالات المالية العامة، ومقاومة دعوات زيادة الحواجز التجارية، والحفاظ على التعاون العالمي بشأن القواعد التنظيمية لجعل النظام المالي أكثر أمانا.
في الولايات المتحدة، ينبغي أن يعمل صناع السياسات على التأكد من أن إجراءات الإصلاح الشامل للنظام الضريبي تشجع الشركات على الاستثمار في مجموعة جديدة من الماكينات وأجهزة الحاسوب والمعدات ــــ بدلا من الخوض في مخاطرات مالية. وعلى الأسواق الصاعدة أن تركز على تعزيز سلامة شركاتها ونظامها المصرفي. وفي أوروبا، ينبغي أن يعالج صناع السياسات الأسباب الهيكلية وراء ضعف ربحية المصارف.
ولنلق نظرة أقرب على التحديات في كل منطقة.
في الولايات المتحدة، زادت ثقة الأعمال والمستثمرين مع المناقشات الدائرة حول إصلاح ضرائب الشركات والإنفاق على البنية التحتية وتخفيف الأعباء التنظيمية. ويمكن أن يبشر هذا بحدوث انتعاش ضروري في الاستثمار الذي يعاني الضعف منذ أكثر من 15 عاما.
كثير من الشركات التي تستطيع زيادة الإنفاق الرأسمالي ركزت بدلا من ذلك على خوض المخاطر المالية، مثل اقتناء الأصول المالية واستخدام الديون لسداد أرباح المساهمين. من ناحية أخرى، نجد أن الرفع المالي بلغ مستوى عاليا بالفعل في الشركات التابعة للقطاعات التي تمثل قرابة نصف الاستثمار الأمريكي ــــ وهي الطاقة والمرافق والعقارات. ويعني هذا أن التوسع في الاستثمار، حتى مع التخفيف الضريبي، يمكن أن يزيد من مستويات المديونية المرتفعة بالفعل.
ولكن ما المشكلة في هذا؟
إذا حدث ارتفاع حاد في أسعار الفائدة ـــ بسبب زيادة عجز الموازنة العامة على سبيل المثال ـــ يمكن أن تصل قدرة الشركات على خدمة الدين إلى أضعف مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية. وفي ظل هذا السيناريو، نجد أن شركات تبلغ قيمة أصولها نحو أربعة تريليونات دولار قد تجد صعوبة في خدمة ديونها. ويعادل هذا قرابة ربع الأصول التي نخضعها للتحليل.
وليس هذا مدعاة للقلق فحسب بالنسبة للولايات المتحدة. ففي اقتصاد عالمي يتسم بالاندماج، تصل تداعيات الأحداث التي تقع في الاقتصادات المتقدمة إلى بقية أنحاء العالم. ولهذا ينبغي أن تهدف السياسات المقترحة من الولايات المتحدة إلى تنشيط النمو الاقتصادي مع تجنب الاختلالات التي يمكن أن تكون عواقبها سلبية على بقية أنحاء العالم. ويستتبع هذا اعتماد منهج استباقي في معالجة المجالات التي تبدو المخاطرة فيها مفرطة والمساعدة على ضمان سلامة الميزانيات العمومية في الشركات.
وفي الأسواق الصاعدة، يتمثل الخطر القائم في احتمال حدوث تحول مفاجئ في مزاج السوق ما قد يتسبب في خروج تدفقات رأسمالية والإضرار بآفاق النمو – وهو ما يمكن أن يحدث أيضا في حالة التحول العالمي نحو الحمائية.
فما مدى انكشاف الأسواق الصاعدة في ظل هذا السيناريو؟ تشير تقديراتنا إلى أن دين أضعف الشركات يمكن أن يرتفع بما يصل إلى 230 مليار دولار، ومن ثم، قد تحتاج المصارف في بعض البلدان إلى إعادة بناء احتياطياتها الوقائية من رؤوس الأموال ومخصصات مواجهة خسائر القروض. وتلك المصارف هي التي تشهد بالفعل هبوطا في جودة أصولها بعد فترة طويلة من الرواج الائتماني.
ولحماية اقتصادات الأسواق الصاعدة، ينبغي أن يعمل صناع السياسات فيها على تحسين آليات إعادة هيكلة الشركات، ومراقبة مواضع الانكشاف لدى الشركات، والتأكد من توافر احتياطيات وقائية كافية لدى المصارف.
تسهم الصين مساهمة أساسية في النمو العالمي ولكنها تعاني مواطن ضعف بارزة أيضا. فقد زادت نسبة الائتمان في الاقتصاد الصيني بأكثر من الضِعْف في أقل من عشر سنوات، حتى تجاوزت 200 في المائة، وهو مستوى من الرواج الائتماني يمكن أن يشكل خطورة على الاقتصاد. وكلما طالت مدة هذا الرواج، زادت الخطورة التي يشكلها.
وتواصل السلطات الصينية تعديل سياساتها للحد من نمو النظم المصرفية ونظم الظل المصرفي. ولكن الأمر يتطلب مزيدا لإبطاء معدل النمو الائتماني. ويمثل تقدم السلطات ونجاحها في هذا المسعى مطلبا ضروريا للاستقرار المالي العالمي.
وفي أوروبا، قام صناع السياسات بتقوية الجهاز المصرفي عن طريق إرساء متطلبات رأسمالية أعلى، وقواعد تنظيمية أقوى، ورقابة أكثر إحكاما. وعلى مدار الأشهر الستة الماضية، ارتفعت أسعار أسهم المصارف مع انحدار منحنى العائد، واكتساب التعافي الاقتصادي مزيدا من القوة.
ولكن القصة لا تتوقف عند هذا الحد. فمن غير المرجح أن يؤدي حدوث تعاف دوري إلى علاج حاسم لتحدي الربحية الذي يواجه كثيرا من المصارف في أوروبا. وتحد الربحية الضعيفة من قدرة هذه المصارف على الاحتفاظ برأس المال، ما يجعل تجاوزها للصدمات أكثر صعوبة ويزيد من المخاطر على الاستقرار المالي.
وفي تقرير الاستقرار المالي العالمي، ننظر في حالة المصارف الأوروبية التي تبلغ أصولها 35 تريليون دولار. ونقسم هذه المصارف إلى ثلاث مجموعات ـــ مصارف عالمية، ومصارف ذات تركيز أوروبي، ومصارف محلية.
وتواجه المصارف المحلية أكبر التحديات، حيث كان العائد شديد الضعف في ثلاثة أرباعها تقريبا في عام 2016. وتمثل "الكثافة المصرفية الزائدة" مشكلة لعدد كبير منها. ويشمل هذا المصطلح النظم المصرفية التي تضم مصارف ضعيفة ذات احتياطيات رأسمالية منخفضة، أو عددا كبيرا من المصارف ذات التركيز الإقليمي ونطاق الصلاحيات الضيق، أو عددا كبيرا من الفروع ضعيفة الكفاءة.
وللتغلب على هذه المعوقات الهيكلية، ينبغي أن يتخذ صناع السياسات في أوروبا خطوات لتشجيع دمج المصارف وترشيد الفروع، وإصلاح نماذج عمل المصارف، ومعالجة القروض المتعثرة.
وقد أوضحنا الإجراءات الداخلية التي يمكن أن تعزز الاستقرار المالي. أما على المستوى العالمي، فإن الاستكمال الناجح لجدول أعمال الإصلاح التنظيمي يشكل أهمية بالغة، ويعتمد على مواصلة التعاون والتنسيق على أساس متعدد الأطراف. وسيكفل استكمال جدول أعمال الإصلاح أمان النظام المالي العالمي وإمكانية استمراره في دعم النشاط والنمو الاقتصاديين.
وسيشكل تحديد مزيج السياسات الصحيح ركيزة قوية للنظام المالي العالمي، ويدعم ما تحقق من تحسن أخيرا في آفاق النمو والاستقرار المالي. ولكل صناع السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا والصين والأسواق الصاعدة أدوار يقومون بها في هذا الخصوص.