Author

النظرية الجرثومية في الإدارة ليست نقدا لعمل الوزارات

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

النقد هو عمل نقوم به ككتاب للرأي ولا مناص منه، وليس الهدف منه التشهير أو الإثارة الصحافية، بل هو نقد إيجابي سواء تضمن إيجابيات أو عرضا للسلبيات، لكن لا أعتقد أن أحدا من كتاب الرأي يسعى إلى هدم لا فائدة منه أو المبالغة في النقد السلبي حتى التشهير والتجريح أو الإهانة. سبب هذا المقال هو هذا المعنى بالضبط، فقبل مدة نقدت بشدة عمل إحدى الوزارات وكان هدفي من ذلك البناء حتى إن كنت قاسيا بعض الشيء، وقد تضمن النقد حينها الإشارة إلى النظرية الجرثومية في الإدارة، ومع الأسف فقد قامت بعض الصحف الإلكترونية بخطأ فني في نقل حديثي، حيث تضمن النقل سوء فهم للمعنى وللمفهوم خاصة في النظرية الجروثومية في الإدارة. لهذا فإنني أؤكد من خلال منبر الاقتصادية أنني حريص جدا على النقد الهادف البعيد عن أي تجريح أو إهانات أو تقليل من عمل الآخرين، لكن لا أعتقد أن أحدا سيتوقع من كتاب الرأي مدح الإنجازات فقط خاصة أنها تظهر في الأخبار الصحافية وتحرص الجهات على إبرازها بكل وضوح ومهنية عالية.  
النظرية الجرثومية في الإدارة التي تحدثت عنها قد أشار إليها دليل سوير الصادر عن المعهد الدولي للمراجعين الداخليين وشجع على استخدامها في المراجعة الداخلية، وهذا الدليل مترجم ومتاح من خلال الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين، وأول من تحدث عن هذه النظرية هو مايرون ترايبوس مدير المعهد الأمريكي للإنتاجية والجودة، وله كتاب في النظرية الجرثومية في الإدارة بعنوانThe Germ theory of Management، وهناك ورقة موجودة على النت للمؤلف نفسه بهذا العنوان يمكن الرجوع إليها لمن أراد المزيد من التفاصيل، والنص التالي مقتبس من الورقة ويعد مدخلا رائعا لفهم المقصود من النظرية: "لقد كان الطب" بنجاح "يمارس دون علم الجراثيم. في مرحلة العلاج الطبي ما قبل اكتشاف الجرثومية، يحصل عادة تحسن لبعض المرضى بشكل أفضل، ويحصل للبعض الآخر تدهور في الصحة ويبقي البعض على الحال نفسه. في كل حالة كان يتم استخدام تفسيرات منطقية للفهم".
يقول المؤلف إن الأطباء كانوا في الماضي ينظرون إلى مرض الملاريا مثلا على أنه سوء في الهواء ولهذا سمي المرض بمرض الهواء Mal-Arai  على أساس أن السبب هو فساد الهواء من حولنا وهذا جعلهم يذهبون في علاج المرض للمكان الخاطئ وبالأدوات الخاطئة، لكن عندما تم اكتشاف الجراثيم التي تسبب المرض تغيرت النظرة تماما والعلاج كليا. مؤلف النظرية الجرثومية في الإدارة يتحدث بإسهاب في مؤلفه عن فيروس التباين الذي يصيب العملية الإدارية، وأن العمل الإداري إذا لم يتعامل مع هذا الفيروس فلن يحقق تقدما أكثر من التقدم الذي كان يحصل مع علاج الملاريا، فالمشاكل الإدارية قد يتم علاجها بطريقة ما على أساس فهم عام قد يكون مغلوطا ثم إذا جربنا الطريقة نفسها مع مشكلة إدارية أخرى فقد لا تنجح وفي كل مرة سنجد مبررا لتصرفاتنا، لكن للحقيقة فإن ما نقوم به هو هدر كبير للموارد والتعامل المستمر مع عدم التأكد، لكن إذا استخدمنا النظرية الجرثومية وتعرفنا على مرض فيروس التباين الذي شرحه المؤلف فإن نسب العلاج ترتفع بشكل كبير، ويتحقق وفر ضخم في الموارد.
عندما طالبت بتطبيق فكر النظرية الجرثومية في الإدارة في إحدى الوزارات لم أكن أؤمل في فهم عميق لمسألة فيروس التباين لكن على الأقل التعامل الجزئي مع النظرية هو ما نحتاج إليه الآن على الأقل. وكي تتضح الفكرة فإن فيروس التباين الذي شرحه المؤلف هو فيروس يصيب العملية الإدارية، لكن قبل فهم ما المقصود بفيروس التباين لا بد من فهم العملية الإدارية وتحليلها جيدا، لضرورة الشرح نعود لمثال من الطب، فعندما تذهب إلى الطبيب للعلاج من شكوى الالتهاب في الحلق مثلا فإن الدكتور يدرك فورا الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والعلاقات ما بينهما ويدرك الفيروسات التي تصيب كلا منهما وأعراض كل فيروس، ولو لم يدرك الطبيب تفاصيل كل جهاز من هذين الجهازين وكيف تتم عملية الأكل والهضم ودور الفم فيها وكذلك التنفس، لما أمكنه من تحديد المشكلة ومن ثم العلاج. بالعودة للإدارة فإنه لا يمكن فهم آثار ومخاطر فيروس التباين إذا لم تكن العملية الإدارية التي نحن بصدد علاجها مفهومة ومشروحة جيدا. العملية الإدارية التي تعالج موضوعا ما يجب أن تكون مفهومة تماما للمدير، فمثلا اجتماع معين يحتاج إلى كثير من التحضير ومن ذلك تصوير الأوراق الخاصة بالاجتماع وتوزيعها على المشاركين قبل الاجتماع بفترة، الموضوع يبدأ من خلال إعداد المذكرات التحضيرية ومن ثم الطباعة على الحاسب وبعد ذلك يتم تصويرها بعدد الأعضاء وبعد ذلك يتم وضعها في ملفات وإرسالها للمجتمعين وهكذا حتى الاجتماع. يحدث أحيانا كثيرا أن يصل المجتمعون ولم تصل أوراق الاجتماع ويبدأ التذمر وتأخير العمل، وقد يتم نقل موظف وإنهاء خدمات آخر، ومع ذلك لا تتم معالجة المشكلة، هذا بالضبط هو العلاج ما قبل الفيروسات.
النظرية الجرثومية في الإدارة ترى أن فيروس التباين هو المشكلة، فالمسألة تبدأ من إعداد الوثائق التي يتم فيها استخدام أنواع متباينة من الورق بعض هذه الأوراق لا تتناسب مع آلات التصوير التي تستقبل أنواعا مختلفة من الأوراق لكنها مع التباين الذي تتعرض له في حجم ونوعية الورق قد تتعطل، وبالتالي انتقل فيروس التباين من الأوراق إلى آلات التصوير، التي تتطلب الصيانة، وبالتالي يتأخر الوقت اللازم للإعداد، كما أن التباين في حجم الحبر اللازم في كل ورقة مطبوعة يوجد تباينا في نوع وكمية الأحبار في التصوير وبالتالي تعرض الآلات للتوقف وانتهاء الأحبار ومن ثم تبدأ مشاكل تتعلق بالصيانة والحاجة إلى شركات للصيانة وهكذا تتفرع المشاكل وتتوسع حتى يفشل الاجتماع الذي نحضر إليه، وإذا نظرنا في الطريقة التي نعمل بها اليوم فإن اللوم يقع على الموظفين القريبين من الاجتماع فقط، وتتم معالجة الموضوع برتابة متناسين حجم الهدر في الموارد التي تقف خلف تأخير اجتماع طالما هناك تباين ينتقل داخل النظام. هذا شرح مبسط جدا للموضوع لتسهيل الفهم.
في نقدي لأعمال بعض الوزارات الحكومية هو أنني أردها إلى أنها لم تطبق مفهوم النظرية الجرثومية ولو جزئيا، لا أطمح في اكتشاف فيروس التباين وعلاجه، بل أطمح في فهم واضح لتسلسل العمليات وشرحها بالتفصيل ومن ثم إعداد التقارير والبيانات وتحليلها بناء على تفصيل كل عملية وليست أرقاما عامة جوفاء.

إنشرها