العلاقة بين التقنية والبطالة
جلبت نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية حولها مزيدا من الجدال والنقاش داخل أمريكا وخارجها. طبعا تعددت الآراء والتفسيرات لهذه النتيجة. ومن التفسيرات التي لها نصيب من القوة حصول انخفاض نسبي في ثروات سواد الناس، وتناقص عدد الوظائف المتاحة لطبقة ما يسمى شعبيا العمال (بالإنجليزية working class) مع السنين، وهي يد عاملة ماهرة، ولكن مهاراتها في صناعات قامت على تقنية قديمة أو في صناعات تضررت من حركة التصنيع في دول أخرى. تم نقل مصانع أمريكية وتصنيع جزء كبير من السلع التي كانت تصنعها شركات أمريكية داخل أمريكا، تم نقلها إلى بلاد كانت تعد نامية وعلى رأسها الصين، بسبب كون تكلفة الإنتاج أقل. طبعا نتج من هذه التغيرات فقدان ملايين الأمريكان وظائفهم. ومعروف أن غالبية عمال أمريكا مواطنون أمريكيون (أي لم تستقدمهم أو تستوردهم كما هو الوضع في بلادنا). أما أعدادهم فعشرات الملايين. ووجدت وعود المرشح ترمب وما طرحه في خطبه من أفكار لحماية أمريكا من المنافسين، وجدت آذانا صاغية لدى تلك الطبقة رغم أنه جمهوري.
يرى أساتذة وباحثون كبار من اقتصاديين وغير اقتصاديين أن ترمب غير قادر على الوفاء بوعده بإعادة ما يراه مجد أمريكا السابق. ومن أشهر هؤلاء البروفيسور بول كروقمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد. وخلاصة رأيه (المدعوم طبعا بمناقشات نظرية وتطبيقية) وقد قاله حتى قبل نتائج الانتخابات الأمريكية، إن الوظائف المفقودة تعوض وظائف من نوع آخر. ومن ثم فمعدل البطالة لن يتغير تغيرا كبيرا، ولكن الطلب على نوعية وطبيعة الأنشطة والوظائف هو الذي في تغير. ومن ثم، فإن أمريكا لو نجحت في إعادة بعض المصانع، فسينتج من ذلك زيادة بطالة في أنشطة أخرى.
التطورات التقنية أدت إلى بطالة في الصناعات المعتمدة أكثر على العمل، وصنعت شعورا بالإحباط لدى ملايين العمال الأمريكيين خاصة لدى البيض. على سبيل المثال، درست مجموعة بوسطن الاستشارية Boston Consulting Group أن تكلفة استخدام روبوت في بعض الإنتاج يكلف قرابة تسعة دولارات للساعة، أما تكلفة الفني لأداء العمل نفسه فقرابة 25 دولارا للساعة.
وبروفيسور الاقتصاد ديفيد أوتر في جامعة إم آي تي MIT درس تأثير التغيرات السابقة، وبالأخص حالة فقدان وظائف في الصناعة في أماكن ممتلئة أكثر من غيرها بالمنتجات الصينية ذات التكلفة الرخيصة نسبيا، ووجد أنها أدت إلى استقطاب سياسي.
بيانات خطوط الإنتاج تظهر انحدارا في التوظيف خلال السنوات الـ 30 الماضية. وانخفض عدد وظائف القطاع الصناعي التحويلي من نحو 20 مليون وظيفة إلى نحو 12 مليون وظيفة. في المقابل زادت وظائف قطاعات أخرى.
وعود بإعادة ملايين الوظائف الخارجة من أمريكا. كيف؟ حديث عن إعادة بناء قواعد تقوم عليها التجارة الدولية، مثل اتفاقية نافتا (اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية) وفرض جمارك على منتجات الصين. لكن باحثين يرون أن تلك الوعود غير قابلة للتطبيق. فالعالم لن يقبل بسهولة، وقطاع الصناعة التحويلية الأمريكي شهد نجاحات كبيرة في الأعوام الأخيرة، والقطاع أصبح منتجا أكثر ولكن بقوة عاملة أقل نتيجة التطورات التقنية. القطاع نما إنتاجه مرتين تقريبا خلال الأعوام الـ 30 الماضية، ولكن دون حاجة إلى زيادة كبيرة في أعداد من يوظفهم القطاع.
التطورات التقنية السابقة لم تنحصر آثارها في فقدان ملايين الطبقة العاملة وظائفهم، بل تعدت ذلك. التغيرات التقنية التي يشهدها العالم أخيرا يعتقد أنها السبب الأول في تراكم ثروات العالم في أيدي عدد أقل من الأثرياء، بينما تتسع الفروقات في الدخل والثروة على مستوى العالم.