Author

الجامعات .. وتصنيف «شنغهاي»

|
تحرص الجامعات على أن يكون لها مكانة متميزة بين مثيلاتها ليس فقط على مستوى المجتمعات التي تحيط بها، بل على المستوى الدولي أيضا. فالجامعات مؤسسات معرفية عامة مفتوحة للجميع. والمعرفة، سلعتها المتداولة، ليست بطبيعتها محدودة ببعد محلي، بل ممتدة عبر الحدود لتشمل العالم بأسره. ويتضمن عمل الجامعات ثلاث مهمات رئيسة هي: مهمة "التعليم" وتأهيل الناشئة في المجالات المعرفية المختلفة؛ ومهمة "البحث العلمي" والإسهام في الإبداع والابتكار وتقديم معارف جديدة غير مسبوقة؛ ثم مهمة "خدمة المجتمع". وتعرف مهمة "خدمة المجتمع"، المهمة الثالثة، على أنها تشمل: "التعليم المستمر" وتوسيع مدى انتشار المعرفة؛ و"نقل التقنية ومبتكراتها" والإسهام في توظيفها والاستفادة منها؛ إضافة إلى "التفاعل مع متطلبات المجتمع" والاستجابة لاحتياجاته. وتختلف الجامعات في مدى تركيزها على هذه المهمة أو تلك، لكن جميع هذه المهمات، على أية حال، تسهم في تفعيل دور المعرفة في المجتمع، وتعزيز هذا الدور، والعمل على الاستفادة من معطياته. وتتطلع الجامعات، من خلال تنفيذ مهماتها المعرفية، وتفعيل دور المعرفة في المجتمع، إلى الإسهام في تحسين خصائص المجتمع المعرفية وتدعيم إمكاناته. ويتضمن ذلك: زيادة إمكانات الثروة البشرية وتعزيز فرص تشغيلها؛ وتوسيع دائرة العمل التطوعي بين الناس؛ وتفعيل نشاطات الإبداع والابتكار والاستفادة من معطياتها؛ ودعم الاقتصاد وتعزيز مخرجاته؛ وتطوير ثقافة الإنسان وتعزيز اهتماماته المعرفية؛ إضافة إلى تحسين سلوكه الصحي؛ والحد من الجرائم والمخالفات؛ وتعزيز توخي الحكمة، ودعم التفاهم بين الناس على الصعيدين المحلي والدولي. في إطار تفعيل التنافس بين الجامعات، تقوم بعض المؤسسات المتخصصة بتصنيف الجامعات، على المستوى الدولي، ومتابعة تطورها، عبر القيام بهذا التصنيف وإصداره سنويا. ولعل بين أبرز هذه المؤسسات "مؤسسة شانغهاي لاستشارات التصنيف SRC"، وهي مؤسسة صينية مستقلة تتمتع بمكانة دولية في مجال تصنيف الجامعات؛ وتصدر سنويا التصنيف المعروف "بالتصنيف الأكاديمي لجامعات العالم ARWU". وقد بدأت هذه المؤسسة عملها عام 2009م؛ لكن التصنيف الذي تصدره انطلق عام 2003م، وكان ينفذ من قبل جامعة "جياو تونغ Jiao Tong" الصينية، ومقرها شنغهاي أيضا. ولعل نقل المسؤولية عن هذا التصنيف من هذه الجامعة إلى مؤسسة شانغهاي، جاء حرصا على استقلاليته عن أي جامعة. يضاف إلى ذلك أن التصنيف يستعين "بهيئة استشارية" من أعضاء ينتمون إلى مختلف دول العالم وجامعاته. وتجدر الإشارة إلى أن الاسم الأكثر شهرة وتداولا لهذا التصنيف منذ بداياته كان "تصنيف شانغهاي". يقوم التصنيف بتقييم الجامعات، على كل من "مستوى الجامعة"، وعلى مستوى بعض "الحقول المعرفية" الرئيسة فيها، وحتى على مستوى بعض "الموضوعات" المهمة. وهناك أربعة معايير رئيسة للتقييم على مستوى الجامعة. يرتبط المعيار الأول "بجودة التعليم"، وهناك مقياس واحد معتمد لهذا المعيار هو عدد "خريجي الجامعة" السابقين الذين حصلوا على "جائزة نوبل" أو على "ميدالية الحقل FM" المكافئة لجائزة نوبل في مجال "الرياضيات". ويعطي هذا المقياس أهمية أكبر للحاصلين على أي من هاتين الجائزتين في السنوات الأخيرة، مقارنة بالحاصلين عليها في سنوات سابقة. ولهذا المعيار وزن يعادل "10 في المائة" من مجمل معايير التقييم. ويتعلق المعيار الثاني للتقييم "بجودة أعضاء هيئة التدريس"، وهناك مقياسان لهذا المعيار. المقياس الأول هو عدد "أساتذة الجامعة" الذين حصلوا على "جائزة نوبل" أو على "ميدالية الحقل" المكافئة لجائزة نوبل في مجال "الرياضيات"؛ والمقياس الثاني هو عدد أساتذة الجامعة الأكثر شهرة، في "21 مجالا علميا" نتيجة الإشارة بكثرة إلى بحوثهم من قبل الباحثين الآخرين، وذلك طبقا للوائح مؤسسة "تومسون رويترز TR". ولهذا المعيار وزن يعادل "40 في المائة" من مجمل معايير التقييم، موزعة مناصفة بين المقياسين. ويهتم المعيار الثالث للتقييم "بالمخرجات البحثية" للجامعة؛ وله أيضا مقياسان. يقيس الأول عدد البحوث المنشورة في مجلتي "الطبيعة والعلوم Nature & Science"، خلال السنوات الخمس الأخيرة. ويقيس الثاني عدد البحوث المنشورة في مجلات علمية موثقة من مؤسسة "تومسون رويترز TR" في جميع المجالات. ولهذا المعيار وزن، شبيه بالمعيار السابق، ويعادل "40 في المائة" من مجمل معايير التقييم، موزعة مناصفة بين المقياسين. وتجدر الإشارة إلى أنه يجري استبعاد مقياس مجلتي "الطبيعة والعلوم" للجامعات المتخصصة في موضوعات أخرى، ويوزع وزن المقياس، في هذه الحالة، على باقي المقاييس. ونأتي أخيرا إلى معيار "أداء عضو هيئة التدريس"، وله مقياس واحد. ويعتمد هذا المقياس على المقاييس الخمسة للمعايير السابقة، حيث يحدد متوسطها بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس، أي مجملها مقسم على عددهم. ولهذا المعيار وزن يعادل "10 في المائة" من مجمل معايير التقييم. وتشبه معايير تقييم الجامعات تبعا لبعض "حقول المعرفة" الرئيسة، وتبعا لبعض "الموضوعات المهمة"، المعايير سابقة الذكر، ولكن لا تطابقها تماما. وتشمل الحقول التي تؤخذ في الاعتبار: "العلوم والرياضيات؛ والهندسة والتقنية وعلوم الحاسب؛ وعلوم الحياة والزراعة؛ والطب والصيدلة؛ والعلوم الاجتماعية". وتتضمن الموضوعات المهمة: "الرياضيات؛ والفيزياء؛ والكيمياء؛ وعلوم الحاسب؛ والاقتصاد والأعمال". يلاحظ أن "المحور الرئيس للمشهد" الذي ينظر "تصنيف شنغهاي" من خلاله إلى الجامعات هو "البحث العلمي". معيار "جودة التعليم" يوضع في إطار البحث العلمي، وقدرة الخريجين على الحصول على الجوائز العلمية العالمية الكبرى. ومعيار "أعضاء هيئة التدريس" هو أيضا مرتبط بالبحث العلمي باتجاه هذه الجوائز، وباتجاه التميز البحثي على مستوى العالم. ومعيار "المخرجات البحثية" يهتم بالطبع بالبحث العلمي والنشر في مجلات متخصصة ومتميزة. ويأتي بعد ذلك معيار "أداء عضو هيئة التدريس" وهو تلخيص وسطي للمقاييس البحثية السابقة. نحن في هذا التصنيف أمام رؤية تقييم تتركز على مهمة رئيسة واحدة من مهمات الجامعات، دون وزن مؤثر بشكل كافٍ للمهمات الأخرى، إلا من خلال تفاعل هذه المهمات مع البحث العلمي. "تصنيف شنغهاي" تصنيف مهم للجامعات، ولكن في إطار رؤية تتركز على مهمة واحدة، تتفاعل بالطبع في المهام الأخرى، ولكن لا تحيط بها، وليست بديلا عنها. وتفتقر معايير هذا التصنيف إلى الشمولية اللازمة لرؤية الجامعات التي تتطلع إلى إسهام أكبر: في تقديم "تعليم متميز يناسب سوق العمل"؛ وفي "خدمة المجتمع" وتنفيذ متطلبات "المهمة الثالثة"؛ وفي تحقيق طموحات تحسين "الخصائص المعرفية" للمجتمع والارتقاء بإمكاناته. علينا أن نبحث عن "معايير أخرى" ترينا "مشهد الجامعات"، جامعاتنا وجامعات غيرنا، كاملا بكل محاوره وأبعاده؛ نريد "تصنيفا أكثر شمولية" يستفيد من كل جهود الآخرين وتصنيفاتهم، ويكون لنا فيه بصمة إبداعية.
إنشرها