المعرفة .. بين بؤر العبث وضوابط الحماية

كانت "المعرفة" في تجددها المستمر، ولا تزال، مفتاحا للعصور المختلفة التي عاشها الإنسان عبر الزمن. فكرة "الدولاب" أسهمت في تفعيل حركة الإنسان وفي تغيير أنماط حياته؛ و"الأدوات الزراعية" جلبت له الاستقرار بجانب الأرض التي يزرعها ويستفيد من حصادها؛ و"الآلة البخارية" قادت الثورة "الصناعية" ومكنت الإنسان من تقديم منتجات مفيدة غير مسبوقة. و"تقنيات المعلومات"، بما في ذلك تقنيات الحاسوب والاتصالات والإنترنت، فعَّلت المعرفة في المجتمع حفظا ونقلا ومعالجة وتطويرا. وقد باتت المعرفة في هذا العصر متاحة على نطاق واسع، يتبادلها الجميع وينهل منها الجميع؛ وهي بهذا التفعيل وبالإبداع والابتكار تتجدد أيضا كل يوم، في مختلف مجالات الحياة. ونظرا لأن المعرفة تحمل قيمة، يقدم تفعيل النشاطات المعرفية، في هذا العصر، فرصا متجددة وغير مسبوقة للتنمية والازدهار والتقدم المستمر.
تواجه المعرفة المتجددة والمنتشرة "عبثا من العابثين"؛ كما يجري العمل على "حمايتها من قبل المخلصين". ويشمل مثل هذا العبث جانبين: جانب ينشأ عن العبث بالمعرفة المطروحة على الإنترنت والمتاحة على نطاق واسع؛ وجانب ينتج عن العبث بالمعرفة المتجددة المعطاة في البحوث العلمية المنشورة ورقيا أو إلكترونيا. العبث الأول ينشر "معلومات مغلوطة" يمكن أن تؤدي إلى وقوع أولئك الذين يتلقونها بالخطأ في القرارات التي يتخذونها في شتى المجالات، والتي قد تكون مهمة وتتمتع بدائرة تأثير كبيرة؛ والعبث الثاني يعطي "علما جديدا مغلوطا"، أو غشا يحرم مصادر المعرفة المتجددة "حقوقهم الفكرية".
هناك ثلاثة محاور رئيسة للعبث في المعرفة سواء المتاحة على مواقع الإنترنت، أو المطروحة في البحوث والدراسات العلمية. أول هذه المحاور هو محور "اختلاق" Fabrication المعرفة؛ وكما يشير اسم هذا المحور، فإن المعرفة الناتجة عن هذا العبث هي محض افتراء. أما المحور الثاني فهو محور "التحريف" Falsification؛ وناتج هذا المحور هو معرفة لها أصل جرى تشويهه من قبل العابثين. ونأتي إلى المحور الثالث، وهو محور "الانتحال أو السرقة" Plagiarism؛ ويقوم العابث في هذا المحور بتحدي الملكية الفكرية، وأخذ المعرفة وادعائها لنفسه، متجاهلا الأمانة العلمية التي تقضي بضرورة الإشارة إلى أي مصدر معرفي يجري استقاء المعلومات منه.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك عبثا آخر يرتبط بالمعرفة. وعلى الرغم من أن هذا العبث لا يختلق المعرفة ولا يحرفها، بل ولا يدعي ملكيتها بغير حق، إلا أنه لا يقل في تأثيره عن ذلك، بل يزيد. يعمل هذا العبث على الحصول على المعرفة الصحيحة، ولكن "بأساليب غير أخلاقية"، أي أساليب غير مشروعة، تؤذي الإنسان أو الحيوان أو ربما البيئة المحيطة. وعلى ذلك فإن جوهر العبث بقضايا المعرفة هو مشكلة أخلاقية سواء كان العبث متعلقا "بالتلاعب بالمعرفة ذاتها، أو بملكيتها، أو بأسلوب الحصول عليها".
هناك أمثلة كثيرة على العبث بالمعرفة بشتى أشكاله. كثير من هذا العبث يكتشف، ويفتضح أمره، وينال أصحابه عقاب "تهاوي السمعة وتداعي الثقة"، إضافة إلى عقاب التشريعات إن وجدت. لكن كثيرا من هذا العبث يمضي أيضا دون أن يشعر به أحد، وينال أصحابه بالتالي المكاسب التي يتطلعون إليها من العبث، لكن مثل هذه المكاسب تفتقر إلى شرف المضمون، ويبقى صاحبها في قرارة نفسه "مذنبا"، وعديم الثقة بنفسه أيضا.
لا شك أن المطلوب هو "الحد من هذا العبث المعرفي" وجعله في أدنى الحدود، وربما إزالته تماما إن أمكن. ويحتاج ذلك من ناحية إلى "ضوابط ذاتية"، تمنع الإنسان، من خلال ذاته، من العبث بالمعرفة؛ كما يحتاج، من ناحية ثانية، إلى "ضوابط تنظيمية" يجري تنفيذها على المستويين الوطني والدولي وتسعى إلى ردع الإنسان عن أي عبث معرفي. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هناك "ضوابط تقنية" أيضا يمكن استخدامها لكشف عبث "سرقة النصوص من الآخرين" والحد من مثل ذلك.
الضوابط الذاتية المطلوبة هي "ضوابط أخلاقية" ترفض العبث، ليس بالمعرفة فقط، بل بشتى نواحي الحياة الأخرى أيضا. لكن مثل هذه الضوابط غير كافية لأن هناك دائما من ينساها، أو ربما يتناساها، لأمر في نفسه. وفي مجال هذا الاضطراب في شخصية بعض الناس، يقول الله تعالى "إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي". وعلى ذلك، لا بد، والأمر كذلك، من وجود ضوابط تنفيذية عامة إلى جانب الضوابط الذاتية.
يمكن النظر إلى "الضوابط التنظيمية العامة" من منظارين اثنين: منظار يشمل ضوابط تتعلق "بالنشر على الإنترنت"؛ ثم منظار يرتبط بضوابط تركز على "البحث والنشر العلمي" للإبداع والابتكار، وما ينتج عن ذلك من معرفة متجددة؛ وذلك سواء كان النشر إلكترونيا على الإنترنت، أو كان ورقيا عبر مجلات ورقية علمية محكمة. في إطار ضوابط "النشر على الإنترنت"، هناك مواقع تتبع مؤسسات مرموقة تلتزم بضوابط معرفية محددة، إذ لا تنشر الحقائق إلا بعد توثيقها، ولا تطلق الآراء إلا على أساس وجهات نظر موضوعية، وتلتزم بضوابط تحد من عبث العابثين بالمعرفة التي تقدمها. ومن أمثلة هذه المؤسسات: المؤسسات الحكومية؛ والمؤسسات الدولية؛ والمؤسسات التعليمية؛ وربما بعض المؤسسات الإعلامية؛ وغيرها.
في إطار "ضوابط البحث والنشر العلمي"، تقوم مؤسسات النشر العلمي حول العالم بتنفيذ إجراءات مراجعة ومنهجيات تقييم للبحوث المقدمة للنشر ليس فقط لتوثيق جودة المعرفة التي تقدمها هذه البحوث، بل لكشف أي عبث ربما تكون قد تعرضت إليه. ثم هناك إضافة إلى ذلك ضوابط تضعها الجامعات ومؤسسات البحث العلمي للابتعاد عن البحوث التي يمكن أن تؤدي إلى الإضرار بالإنسان أو الحيوان أو البيئة المحيطة.
ولعله لا بد من القول، إنه مهما تعاظمت الضوابط المعرفية، سواء الذاتية أو التنظيمية أو التقنية، فإن علينا أن نتمتع باليقظة، وأن نتوقع أن شيئا من العبث المعرفي قابل للحدوث مهما تعاظمت الضوابط، فلا شيء يمكن أن يصل إلى الكمال الذي نتطلع إليه. ويضاف إلى ذلك أن علينا، في الوقت ذاته، ألا نضع الضوابط جزافا، بل أن يكون لكل ضابط "سبب وأثر" يبرران وجوده. فوجود ضوابط أكثر مما يجب يعقد الأمور، كما أن وجود ضوابط قليلة يفتح الباب أمام عبث أكثر، والخير في التوازن بين الاثنين. ولا شك أن الضوابط الذاتية، إن نجحنا في بنائها بالقدر المأمول، هي الأكثر أهمية بين كل الضوابط، في التعامل مع المعرفة وتعزيز موثوقيتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي