«البريكسيت» والعودة إلى الحمائية

صدمة تصويت بريطانيا لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، المعروفة بـ"البريكسيت"، ستشكل علامة فارقة ونقطة تحول في التاريخ العالمي الحديث. فبعد الانتشار الواسع لمبادئ العولمة وتغلغلها في مكامن الاقتصاد العالمي، كونها تمكنت من تحقيق طفرات ونجاحات غير مسبوقة، فإن الخروج البريطاني يمثل تراجعا وانتكاسة لهذه المبادئ، بل حتى أساسيات الاقتصاد الرأس مالي الحر. فهذه المبادئ ترى أن الفوائد لحرية التنقل للموارد ورؤوس الأموال والعمل أكثر وأعظم للاقتصاد العالمي من الحمائية التجارية. وكذلك فإن العولمة أسهمت في الدفع نحو مزيد من كفاءة استخدام الموارد عن طريق استفادة أكبر للميزات النسبية الاقتصادية لكل دولة. فتخصص كل اقتصاد فيما يبرع فيه أكثر من غيره. "خروج بريطانيا" سيكون له تداعيات بحجم تداعيات سقوط جدار برلين نفسه، الذي أنهى النظام الشيوعي وفتح الباب أمام دخول الصين وروسيا وأوروبا الشرقية إلى منظومة الاقتصاد العالمي. فبريطانيا، إن لم تعد عن قرارها، واختارت أن تنكفئ على نفسها، متصورة أنها بانسحابها وإغلاقها لحدودها ستكون أكثر قدرة على توظيف أبنائها وتوفير مزيد من الرفاهية لمواطنيها. البريطانيون ضاقوا ذرعا بحصول الوافدين من دول الاتحاد الأوروبي الأفقر على الوظائف الدنيا وتمتعهم بما توفره الحكومة من رعاية. ولكنهم في ذلك غفلوا أن التقدم الاقتصادي الذي حققوه لم يكن ليحدث إلا لانتمائهم الأوروبي، وقبل ذلك الاتحاد الأهم إليهم وهو المملكة المتحدة.
المملكة المتحدة تضم اسكتلندا وإيرلندا الشمالية إلى جانب بريطانيا. وبمجرد إعلان نتائج التصويت، الذي أظهر ممانعة ساحقة للخروج من الاتحاد الأوروبي في اسكتلندا، فقد بدأت حكومة الأخيرة بالبدء بمفاوضات جادة لضمان بقائها ضمن الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن خروج بريطانيا لن يحدث قبل عامين. وهو ما يرجح إعادة طرح موضوع استقلال اسكتلندا عن التاج البريطاني بعد حسمه في تصويت متقارب في عام 2014. ولذلك فإن ما حصل من انخفاض في أسواق المال الأوروبية وسعر صرف الجنيه الاسترليني حتى اليوم لا يستوعب تبعات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي كافة. فالتحليلات أشارت إلى فقدان بريطانيا نحو 2 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي في حال الخروج، ولكنها أغفلت الآثار طويلة الأجل مثل الانفصال الاسكتلندي وتراجع قوة تأثير بريطانيا والاتحاد الأوروبي بدونها على الملفات السياسية العالمية.
على الرغم من تدهور أسعار النفط تباعا لنتيجة التصويت، إلا أننا قد نكون في منأى للتداعيات السلبية للبريكسيت على المدى القصير. ولكن استمرار الدولار في الصعود أمام الجنيه الاسترليني واليورو سيجعل فرص انتعاش أسعار النفط في العام المقبل ضئيلة. إضافة إلى زيادة المخاطر بشكل عام بسبب عودة التذبذب لأسعار الأصول والسلع، الأمر الذي سيعزز الطلب على الأصول الآمنة المقومة بالدولار. الأمر الذي سيعززه انتشار حمى الحمائية لدى الدول المتقدمة اقتصاديا وسيطرة اليمين المتطرف على حكوماتها. قد يكون "البريكسيت هو العلامة الفارقة في بداية هذا التدافع، ولكنه بدأ قبل ذلك بكثير، منذ تخلي الإدارة الأمريكية وانكفائها عن دورها في العراق وفشلها في سورية. فالعولمة تتطلب تحمل المسؤولية قبل جني فوائدها. "البريكسيت" ليس إلا رؤية قاصرة تعمل في اتجاه معاكس للتطور الطبيعي للاقتصاد والبشرية، فهل تعود بريطانيا عنها؟ أم أنها ستبدأ عهدا من الحمائية والتحلل؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي