Author

مشاريع مائية ضخمة «3»

|
في مكتبه الصغير في إدارة المياه والكهرباء لمدينة لوس انجيليس، كان دونالد بيكر يقضي الساعات الطويلة مستغرقا في التفكير لأيام عدة، استحوذت فكرة واحدة على تفكير مهندس التخطيط الأربعيني حتى تمخضت عن مشروع سيكون الأضخم في تاريخ المشاريع المائية وحديث الأوساط البيئية في الولايات المتحدة لعقود. كانت ولاية كاليفورنيا والولايات المجاورة لها في الغرب الأمريكي ـ وما زالت حتى يومنا هذاـ تعاني شحا في المياه. لم يفكر دونالد في حل تقليدي، وإنما خطط لمشروع ضخم من شأنه حل مشكلة نقص المياه في ولايات الغرب الأمريكي لعقود طويلة. المشروع الذي ظهر للوجود في خمسينيات القرن الماضي كان يهدف إلى تحويل مياه بعض الأنهار الرئيسة في ألاسكا والغرب الكندي إلى أمريكا والمكسيك. المشروع الذي عرف لاحقا باتحاد ماء وكهرباء أمريكا الشمالية NAWAPA وقدرت مدة إنشائه بـ 30 عاما وتكاليفه بـ 200 مليار دولار "أرقام عام 1964 التي تقارب الـ 1.5 تريليون دولار بأرقام العام الحالي" كان في الواقع عبارة عن 3151 مشروعا مختلفا. فهناك القنوات المائية المختلفة والسدود ومحطات توليد الطاقة وأنابيب النقل العملاقة ومحطات ضخ المياه وغيرها. الفكرة كانت تبدأ من ألاسكا وشمال غربي كندا، حيث سيتم تحويل أكثر من 20 في المائة من الأنهار هناك لتملأ واديا ضخما بطول 800 كيلومتر جنوبا حتى الحدود الشمالية لأمريكا. من هناك سيتم البدء ببناء وحفر القنوات العملاقة لنقل الماء جنوبا جهة ولاية نيفادا وكاليفورنيا، إضافة إلى 31 ولاية أمريكية أخرى حتى المكسيك. وعلى طول هذه القنوات كان من المقرر تجميع الماء في سبعة خزانات ضخمة. كمية المياه التي كان سينقلها هذا المشروع قدرت بـ 150 كيلومترا مكعبا سنويا وهو ما يعادل إنشاء ثمانية أنهار بحجم نهر كولورادو. بعد أن قضى دونالد الأسابيع والأشهر في التفكير في المشروع، اتجه به إلى جهات ومؤسسات مختلفة لدعمه. لم يتلق الدعم وكادت فكرته أن تذهب أدراج الرياح حتى تمكن من مقابلة رالف بارسونز Parsons وهو مؤسس ورئيس رابع أكبر شركة هندسة ومقاولات في العالم في ذلك الوقت. تحمس بارسونز للفكرة جدا، بل من الممكن القول بأنها استحوذت على تفكيره، فكرس لها جل وقته حتى وفاته في عام 1974، كما يؤرخ لذلك كتاب Cadilac Desert. تمكن بارسونز من إنشاء صندوق لدعم الفكرة ومن حشد تأييد إعلامي وسياسي لها. لكن في النهاية وبسبب التكلفة الخيالية والتأثير البيئي السلبي ـ خاصة في الجانب الكندي ـ لم يدعم الكونجرس الفكرة وأصبحت حبيسة الأدراج حتى وقتنا الحالي. سبب التفكير في هذا المشروع وغيره من مشاريع نقل المياه الضخمة كـ"ناقل البحرين ومشروع نقل ماء الجنوب للشمال في الصين ومشروع النهر العظيم الليبي" هو التوزيع غير المتساوي لمصادر المياه؛ أي عدم وجود مصادر المياه العذبة بالقرب من بؤر الطلب العالية. سابقا كان الإنسان ينتقل بمفرده أو بمجتمعه إلى مصادر المياه، أما الآن فالعكس هو الصحيح. لكن عديدا من هذه المشاريع لا يرى النور والسبب إما جيوسياسي "نزاعات إقليمية" أو اقتصادي "تكلفة عالية جدا" أو بيئي "تغيير أو هدم للبيئة الحالية". مشروع اتحاد ماء وكهرباء أمريكا الشمالية بقي حبرا على ورق للأسباب الثلاثة آنفة الذكر مجتمعة. ننتقل الآن من اليابسة إلى البحار والمحيطات، حيث برزت مشاريع وأفكار كثيرة "لشحن" الماء في سفن من أماكن غنية مائيا إلى أماكن تعاني شحا مائيا. الميزة الكبرى لهذا النوع من المشاريع بالمقارنة مع مشاريع نقل المياه على اليابسة هي التكلفة الأقل بكثير. يذكر أن هذا النوع من المشاريع قد ظهر في الخمسينيات من القرن الماضي ثم تطور بشكل كبير في نهاية القرن. ومن هذه الشركات شركة نقل المياه "نورديك" النرويجية وشركة Spragg Bags اللتان كانتا تستخدمان ما يشبه الكبسولة المطاطية الضخمة لنقل الماء ـ حيث إن الماء العذب أقل كثافة من المالح، وبالتالي يطفو بشكل أفضل. من أشهر مشاريع نقل المياه العذبة عبر البحار مشروع جر جبل جليدي من القطب الجنوبي للأمير محمد الفيصل وقد ذكرته بالتفصيل في مقال سابق. وهناك أيضا مشروع شحن ماء ألاسكا وهو كما يذكر بيتر غليك في بحثه الممتع والمصدر الرئيس لهذه المقالةZombie Water Projects لا يزال يتأرجح بين القبول تارة والرفض تارة أخرى. الفكرة ببساطة تقضي ببيع ماء بحيرة مدينة سيتكا في جنوبي ألاسكا وذلك بمد أنبوب ضخم من ساحل المدينة يمتد 2000 قدم تحت سطح البحر إلى منصة مائية، حيث تتم تعبئة الماء من هناك في السفن. وتم إنشاء شركة مستقلة لهذا الغرض وتم الاتفاق مبدئيا على بيع هذا الماء إلى الهند ودول في الشرق الأوسط. والتحدي الأكبر الذي أسهم في تأخر تنفيذ المشروع إلى الآن هو تكلفة الشحن العالية للسفن التي تتعدى ثمن الحمولة المائية "قدر البحث حمولة سفينة متوسطة بـ 100 مليون جالون أي ما قيمته مليون دولار". في هذه الحالة يمكن إنشاء محطات لتحلية ماء البحر بتكلفة أقل وباستدامة أكثر.
إنشرها