انتعاش الاقتصاد .. طريق طويل بآفاق جديدة

بوادر التغير الاقتصادي حولنا في كل مكان، لكن، هل هي بشائر نحو الأفضل؟ أنطونيو فاتاس أستاذ الاقتصاد في إنسياد، يلقي نظرة على عالم دائم التغير.
بعد عقود من إنفاق إيراداتها الهائلة، بدأت الاقتصادات المتقدمة ينفد وقودها بسرعة كبيرة، فأوروبا التي تعاني زيادة عدد المسنين فيها، وتناقص مواردها، تصارع لاحتواء أزمة ديون لم يسبق لها مثيل، والحلم الأمريكي يتهاوى، والفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع وتوجد توترات اجتماعية وسياسية، وفي الوقت الذي تستميت فيه الصناعات في البحث عن أسواق جديدة تخرجهم من حالة الركود، فإن المنطق السليم يقول إن على الجميع تقليص الإنفاق.
هذا الوضع يجعلنا نركز على الأسواق الناشئة، التي شهد كثير منها عقدا من النمو الاقتصادي غير المسبوق، ويتحرك بسرعة للحاق بركب الأسواق المتقدمة من حيث الإنتاجية وزيادة الدخل، وهي بمنزلة عنصر استقرار محتمل للأزمة المالية. هل تنمو الأسواق الناشئة بالسرعة الكافية لإنعاش ودعم الاقتصاد العالمي؟ وهل لدينا القادة السياسيون والاقتصاديون ممن يمتلكون الشجاعة الكافية لاتخاذ القرارات الصعبة؟
يقول فاتاس إن التغير سيأتي من الحاجة، لكنه لن يكون الحل (للأزمة). "أقول كاقتصادي إنه من السهولة بمكان أن تجد حلولا، لكنك عندما تقدم المشورة للحكومات، فالأصعب هو أن تفكر في حلول ممكنة من الناحية السياسية". هذا ما أشار إليه فاتاس أخيرا في مؤتمر القمة للقيادة في الشرق الأوسط، الذي تستضيفه إنسياد في أبو ظبي.
اعتاد الناس في الاقتصادات المتقدمة على مستوى معين من المعيشة؛ للمسنين فيها خطط تقاعدية تتطلب دخلا قويا، في حين كبر الجيل الأصغر من الشباب، وهم يتطلعون إلى الحصول على فرص عمل ثابتة ومجزية، وحياة أفضل من تلك التي عاشها والدوهم، لكنهم،
في المقابل، يعانون تجمد رواتبهم التقاعدية، وتضاؤل فرص العمل، وحكومات تنوء بحمل ثقيل من الديون المتزايدة، لا يمكن احتمالها، وهو ما ستتحمل سداده أجيال عديدة قادمة.
يصر فاتاس على حقيقة أن "هذه ليست مشكلة اقتصادية، وإنما مشكلة سياسية. ما يتعين علينا أن نقرره كمجتمع، جنبا إلى جنب مع العملية السياسية، هو من سيدفع الديون؟".
في دول كاليابان، حيث يتولى المواطنون اليابانيون دين الحكومة، ليس هنالك خيار آخر. إذا تخلفت الحكومة عن الدفع، فإنها "الضريبة" التي يتعين على المواطنين دفعها. لكن في بلدان كاليونان، حيث يتولى أمر بعض الدين جهات خارجية، فهنالك خيار. يقول فاتاس: "يمكن لهم أن يرفضوا دفع الديون للبلدان الأخرى، ويمكنهم أن يفرضوا ضريبة على الناس في اليونان، وهذا أحد الخيارات من الناحية السياسية".
يقول فاتاس إن العالم يحتاج الآن إلى قادة سياسيين أقوياء، لديهم القدرة على التصدي للتحديات الاقتصادية على المدى الطويل، واتخاذ القرارات الصعبة، لكن هذا وحده لا يكفي لإنعاش الاقتصاد العالمي، ويحتاج العالم أيضا إلى رجال أعمال، وأصحاب مشاريع لديهم الجرأة والاستعداد للمخاطرة في الاستثمار والبدء بالإنفاق، كما يحتاج إلى أناس وبلدان تكون لديهم الإرادة لشراء المنتجات التي تريد الاقتصادات المدينة إنتاجها.
ويقول فاتاس: "سيعاني العالم نقصا في الإنفاق على مدى السنوات العشر المقبلة .. ولا يمكن لذلك أن يأتي من البلدان التي تراكمت ديونها في العقد الماضي". لألمانيا واليابان تاريخ طويل في المدخرات الأسرية المرتفعة، مقارنة بالولايات المتحدة، وبعض دول جنوب أوروبا، لكن أزمة اليابان النووية قد ألقت بظلالها على اقتصادها الهش أصلا، وتبدو ألمانيا في مأمن من مطالبات الاتحاد الأوروبي بزيادة الإنفاق.
تفضل دول الخليج الغنية بالنفط، التي نجت نسبيا من الركود بين عامي 2008 – 2009، أن تضع الكثير من فائضها في صناديق الثروات لتستثمر بنشاط أكبر، وتجني الأرباح للأجيال القادمة. في غضون ذلك، أشار صندوق الثروة النرويجي الذي يحتوي على 561 مليار دولار أمريكي، والذي تخزن فيه ثروات البلد النفطية الهائلة، إلى وجود خطط من شأنها الحد من التعرض إلى الأصول الأوروبية لمصلحة الأسواق الناشئة.
إذا كان العالم يأمل تجنب الركود، فعليه أن ينظر إلى هذه الاقتصادات النامية، ذات النمو السكاني الهائل والطبقة الوسطى المتزايدة. يقول فاتاس: "سيكون النمو القوي في الأسواق الناشئة المفتاح لعالم الاقتصادات المتقدمة في السنوات العشر المقبلة"، لكن يجب أن يستمر هذا النمو وأن يترجم إلى إنفاق بشكل لا مثيل له في الماضي.
شهد عديد من البلدان النامية، في السنوات العشر الماضية، تزايدا هائلا في عدد السكان، وقد أسهمت الإصلاحات الاقتصادية في تعزيز الناتج الإجمالي المحلي، لكن لا يمكن الاعتماد على ذلك.
ويحذر فاتاس قائلا: "كثير مما رأيناه في السنوات العشر الماضية لم يكن هو القاعدة، ما زال هنالك الكثير من البلدان التي لا تنمو بالسرعة الكافية. وإذا ما عدنا زمنيا إلى الوراء، فإن هناك عقودا من الزمن لم تكن كما كان عليه العقد الماضي، فقد كانت السنوات القليلة الماضية جيدة جدا للأسواق الناشئة، وهي بالتأكيد أفضل مما كانت عليه للاقتصادات المتقدمة، لكن الأسواق الناشئة تمر بأزمة، ويضيف فاتاس: "والإصلاحات الاقتصادية وحدها غير كافية لتجعل هذه البلدان تصل إلى المستوى المتقدم".
من أجل أن يستمر التقارب، ثمة حاجة إلى إصلاحات مؤسسية عميقة، تهدف إلى الحد من الفساد وتعزيز الشفافية في التعاملات، مع تشجيع أصحاب المشاريع والمؤسسات الخاصة والاستثمارات الدولية.
"لا يمكن للحكومات أن تغير البلد من دون الأعمال التجارية، ففي كل بلدان العالم التي نعرفها، الأعمال التجارية والقطاع الخاص هما أهم مكونات الاقتصاد". قد يمر عديد من البلدان، كالصين والبرازيل، بأزمة. وقد وجدت دول أخرى، كتلك الدول الضعيفة سياسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن الأنظمة الاستبدادية والطبقة الوسطى المتعلمة والمتنامية فيها، تثيران الاضطراب الاجتماعي، وتعرقلان التقدم الاقتصادي. إذا أرادت الاقتصادات الناشئة أن تحدث الفارق، فعلى هذه الأسواق أن تمضي قدما.
يقول فاتاس: "ما زال هنالك بالتأكيد نمو في الأسواق الناشئة، ونحن نشهد تحولا في الإنفاق، لكن ليس بالسرعة الكافية، غير أن الأمر الذي يهمنا جميعا، أكثر من غيره، هو تغير القيادة السياسية، وتغير العقلية في الاقتصادات المتقدمة، من أجل معالجة بعض الاختلالات والتحديات التي يواجهونها على المدى الطويل. إنني أرى أن التقدم أقل مما أتمنى، لكنني أظل متفائلا، لأنني أرى أن تغير البلدان يكمن في الحاجة".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي