Author

انتصار «كينز»

|
البداية الصعبة للاقتصاد العالمي هذا العام ـــ والتي تميزت بحالة من الاضطراب خصوصا في الصين ــــ ألقت بظلالها على النقاشات التي تضمنتها اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين واجتماعات وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية لدول مجموعة العشرين. هذه الاجتماعات ــــ التي تعد منتدى يلتقي فيه وزراء مالية ومحافظي الدول الأعضاء في المؤسستين الدوليتين مرتين في العام ويتداولون خلالها أهم القضايا التي تواجه الاقتصاد العالمي - لم تكن كسابقتها حيث أظهرت انقساما في الآراء حول أداء الاقتصاد العالمي ومستوى المخاطر التي تواجهه. ففي حين كانت المؤسسات الدولية تشدد على أن المخاطر التي يواجهها الاقتصاد العالمي عالية، فإن ممثلي الدول من الوزراء والمحافظين أقل قلقا من المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي. فانخفاض الطلب العالمي خصوصا في الدول المتقدمة، وانخفاض أسعار النفط والسلع بشكل عام، والوضع الاقتصادي في الصين، هي العوامل الرئيسة الثلاثة التي تسبب القلق لصانعي القرار الاقتصادي وتلقي بظلالها على تقييمات النمو الاقتصادي العالمي. فصندوق النقد الدولي خفض توقعاته للنمو الاقتصادي هذا العام 2016 إلى 3.2 في المائة من 3.4 في المائة، بينما خفض توقعاته للنمو في عام 2017 إلى 3.5 في المائة من 3.6 في المائة. وهذا لا يعكس فقط قلقا من العوامل الاقتصادية الثلاثة التي أشرت إليها، ولكن يعكس أيضا عوامل أخرى غير اقتصادية لكنها تؤثر في آفاق الاقتصاد العالمي كقضية المهاجرين في أوروبا، والاضطرابات الجيوساسية خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، والقلق الكبير من التبعات التي يمكن أن تنتج عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والاضطرابات السياسية في البرازيل. كل هذه العوامل تشكل مزيجا من بيئة غير مواتية لنمو اقتصادي قوي في مناطق كثيرة من العالم. الجميع متفق على أن الوضع لا يشابه الوضع الذي شهدته الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لكن التساهل في الاستعداد من خلال السياسات الداعمة للنمو الاقتصادي والسياسات التي تعزز من متانة القطاع المالي قد يؤدي إلى وضع مشابه، ما يتطلب المزيد من العمل على تعزيز السياسات الاقتصادية الداعمة للنمو الاقتصادي. وهذا ما جعل الكثيرين يتساءلون عما إذا كانت الدول ــــ خصوصا الدول المتقدمة ــــ تقوم بما يجب لتعزيز النمو الاقتصادي، وعما إذا كانت سياساتها المتحفظة بعد الأزمة المالية العالمية وأزمة الديون السيادية في أوروبا هي السبب وراء هذا التراجع في النمو الاقتصادي. فهناك حاجة إلى موازنة بين الإصلاحات الهيكلية التي تعزز النمو وتزيد من كفاءة الأداء الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل، وبين الحاجة إلى دعم النمو الاقتصادي المتباطئ على المدى القصير من خلال تبني سياسة التحفيز المالي والنقدي. هذا الصراع والجدل هو قديم بين فكرة "كينز" لدعم الطلب العام لتعزيز النمو وعدم فعالية السياسة النقدية لتحقيق ذلك خصوصا عندما تصل أسعار الفائدة إلى الصفر (مصيدة السيولة)، أو فكرة النظرية الكلاسيكية وأنصارها (فريدمان وآخرين) لاستخدام السياسة النقدية لتحفيز جانب العرض وبالتالي تحفيز النمو الاقتصادي. وفي ظل ذلك، فإنه من الواضح أن الجميع وصل إلى قناعة إلى أن الفترة السابقة شهدت تركيزا على الأول (الإصلاحات الهيكلية) على حساب الأخير (تحفيز النمو) أدت إلى تراجع الطلب العالمي، وتراجع النمو الاقتصادي، وتراجع معدلات التضخم بشكل واضح. لكن ما يمنع من التركيز على جانب تحفيز النمو هو جانب يتعلق بالسياسة الداخلية ولا تجد ما يبررها من الناحية الاقتصادية، خصوصا في بعض دول منطقة اليورو. والانتظار في عدم التركيز على جانب الطلب قد يكون أدى إلى حدوث تحول في التراجع في إمكانات النمو الاقتصادي في عدد من الدول من تراجع مؤقت إلى تراجع دائم. والسبب أن إمكانات الإنتاج المعطلة بسبب ضعف الطلب قد يتم التخلص منها لتجنب تكاليف الصيانة والتمويل إن كانت هذه الإمكانات في شكل آلات، أو تكاليف الأجور في حال كانت في شكل موارد بشرية. وتدمير إمكانات الإنتاج في العادة يكون سهلا مقارنة ببناء تلك الإمكانات، ولن تكون عودة هذه الإمكانات إلى العمل مرة أخرى بالأمر السهل. لذلك، يلاحظ الآن وجود طاقة إنتاجية فائضة في عدد من الدول خصوصا في الصين التي تعاني فائضا كبيرا في إنتاج الحديد، وهذا ما سبب تراجع أسعاره بشكل كبير. وانتقلت آثار ذلك إلى الدول الأخرى، حيث تعاني بريطانيا أيضا مشكلات كبيرة جدا في صناعة الحديد بسبب الانخفاض الحاد لأسعاره. هذا يعني أنه إذا لم تتم الاستفادة من هذه الطاقة الإنتاجية الفائضة بتحويلها إلى صناعات أخرى، فإن ذلك سيؤدي إلى ضرورة التخلص منها، وهو ما يعتبر تخفيضا لإمكانات النمو الاقتصادي العالمي. وهذا يعني أن الاستمرار في السياسات النقدية التحفيزية قد لا يؤدي إلى تحقيق التحفيز المطلوب للنمو الاقتصادي لإيجاد الوظائف والقيمة المضافة التي يحتاج إليها الاقتصاد العالمي. لذلك، فإن السياسة النقدية التي ذهبت في البنوك المركزية في الدول المتقدمة إلى أقصى مدى ممكن قد تكون وصلت حدها الأقصى، ما يتطلب العمل على استغلال حيز السياسة المالية المتاح لتفعيل الطلب الكلي لإحداث المطلوب. وهذا الأمر يتأكد في ظل تراجع معدلات الفائدة إلى الجانب السلبي في كل من اليابان وسويسرا والسويد وفي منطقة اليورو وفي الوقت نفسه تراجع معدلات التضخم. لذلك، فالفترة المقبلة ستشهد ضغطا أكبر على داعمي فكرة الإصلاح الهيكلي وأولويته على أجندة السياسة الاقتصادية، في مقابل ازدياد داعمي فكرة التركيز على دعم الطلب على المدى القصير من خلال استخدام الحيز المالي. وهذا واضح من خلال انضمام عدد من المؤسسات المالية الدولية للإشارة إلى ذلك من خلال المطالبة بتنسيق دولي لتحقيق هذا الهدف، وهو ما سيعد في النهاية انتصارا لفكر "كينز" على حساب فكر داعمي النظرية الكلاسيكية التي تركز على تحفيز العرض.
إنشرها