دعوة تحت مطر باريسي
في الشارع الصغير غو كوجاس المتفرع من بوليفارد سان ميشال، يقع واحد من أهم المراكز التعليمية في العالم، جامعة السوربون، يمتد الشارع كنهر صغير على ضفتيه مكتبات وأكشاك تبيع الكتب لطلاب الجامعة، في أحدها وقف الشاب القادم من وسط نجد، يتصفح الكتاب الضخم، لا يعرف كلمة مما كتب فيه غير كلمة Droit التي جاءت وسط عنوانه المتداخل. حاصره اليأس، وخيمت على سمائه سحب من الإحباط، لماذا لا يتقدم في هذه اللغة رغم محاولاته المتكررة في تعلم الفرنسية التي عشقها بسبب Droit أي القانون.
زخات المطر المتساقطة فصلته عن الجو الباريسي اللذيذ، وأعادته وسط نجد العظيمة، إلى والده الذي يقول دائما عندما ترسل السماء رحماتها: "الدعوة مستجابة لحظات سقوط المطر". أعاد الكتاب إلى رفه، تقدم وسط شارع كوجاس وكرات المطر تتكسر على أرضيته السوداء، رفع يديه وعيناه تمطران كالسماء فوقه، وقال بإخلاص: يا رب مكني من قراءة هذه الكتب كما يقرأها أهلها.
لم تكن اللغة الفرنسية هي العائق الوحيد الذي حال بين الشاب النجدي وطموحه الأوحد في الحياة، أن يصبح محاميا يشار إليه بالبنان، كانت المسيرة نحو هذا الهدف مليئة بالأشواك. عندما أنهى دراسته الثانوية لم يمكنه مجموع درجاته من الالتحاق بقسم القانون في جامعة الملك سعود، وحين قدم له قسم القبول في الجامعة استمارة الرغبات، كتب أمام الرقم الأول: القانون، وترك الخانتين التاليتين فارغتين، فاضطر للاتصال بشقيق والدته ليبلغه بدقة: "خالي أريد دراسة القانون أو ستنتهي حياتي". تحققت رغبته لاحقا بوساطة خاله. التحق بصفوف عشقه، وتحول حبه للقانون إلى عشق لفرنسا كلها، قلت له: لماذا فرنسا؟ أجاب: "في كل شاردة وواردة في دراسة القانون لا بد أن يمر عليك استشهاد بفقيه قانوني فرنسي، فقررت شرب الماء من منبعه الصافي".
حين أنهى دراسته الجامعية في الرياض، بقي أمام بوابة السفارة الفرنسية في الرياض، يرجو أن يكون ضمن الطلاب المختارين لدراسة ماجستير القانون في باريس، تكسرت الأماني مرة أخرى وخرجت القائمة بدون اسمه، هذه المرة لا يمكن لخاله الاتصال بالفرنسيين، فتملكه الإحباط، ويمم الخطى تجاه بلاد العم سام لدراسة الإنجليزية، بقي عامين انتهت بسقوط برجي التجارة بالطائرات الانتحارية فعاد للرياض ضمن قوافل العائدين، وبدأ في غزل أحلامه الفرنسية من جديد.
لم يكن خالد البابطين متفوقا في دراسته الثانوية، والجامعية، لكنه يملك شيئا لا يملكه بعض أقرانه وهو حب القانون
والتصميم على الغوص فيه وفق أدبيات الفقهاء القانونيين الفرنسيين العظماء، فجمع مبلغا من المال من قضايا صغيرة توكل فيها لدى محاكم الرياض، وشد الرحال إلى باريس، للوهلة الأولى بدا كالمتسكعين المثقفين القدماء في شوارع عاصمة النور المسماة بذلك لغزارة المعارف التي نقلت عنها لشعوب العالم، أحبط أيما إحباط حين عجز عن التقدم في دراسة الفرنسية، ويصف المشهد: "أعتقد من الصعوبة تعلم الفرنسية بعد منتصف العشرين، إنها لغة لا تتسق مع اللسان العربي الذي تعود على لغة الضاد". وجاءت حادثة المطر.. يتذكرها البابطين مع كل الصعوبات التالية التي تعترض طريقة، كأنما حل المطر يومها عقدة لسانه، فانطلق طالبا نجيبا ضمن دارسي القانون في جامعة السوربون العظيمة التي خرجت من قبل الرئيس السنغالي السابق عبدو ضيوف، مؤسس تونس الحديثة الحبيب بورقيبهة، أمير الشعراء أحمد شوقي، الأديب المصري طه حسين، والروائية الشهيرة أحلام مستغانمي.
من يقرأ سيرة المحامي خالد البابطين الحائز على إجازة في الماجستير من السوربون ويستعد لمناقشة رسالة الدكتوراه عن الجامعة نفسها بعد أشهر، الذي نشأ بلا أم، يعرف أن قضيته الأخيرة مع اتحاد الكرة والوسط الرياضي، ليست سوى فاصلة صغيرة في سلسلة حياة رجل تجاوز الكثير من الصعوبات بالتصميم والرغبة نحو تحقيق أحلامه التي يعتقد أنها ولدت معه وأنه دونها لا شيء.