أول مطبعة في الرياض .. وبقي المكان شاهدا

حين تمر من شارع الإمام عبد الرحمن بن فيصل في حي المرقب في الرياض، فسوف تجد مبنى قديما مهجورا تعتليه لوحة زرقاء عمرها قارب سبعة عقود، كتب عليها بالعربية والإنجليزية: شركة الطباعة والنشر الوطنية، مطابع الرياض.

هذا المبنى كان في زمانه من أضخم المباني في الحي، وهذه الشركة كانت الأولى من نوعها في المنطقة الوسطى، وإحدى أهم الشركات الوطنية السعودية آنذاك.

وقفت هذه اللوحة شامخة إلى اليوم لتقول لنا: هنا كان جيل من الرواد، هنا كان حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الكريم الجهيمان، وعلي العبداني، وعبد الله بن إدريس، وسعد البواردي، وعمران العمران. وقفت شامخة لتقول لنا: هنا بدأ تاريخ الطباعة والمطابع في مدينة الرياض والمنطقة الوسطى.

ولهذا المبنى حكاية وقصة وذكريات..
يقول حمد الجاسر في مقالة له بعنوان "الطباعة في الرياض"، نشرت عام 1375 هـ: "يرى مؤرخو تطور الفكر الإنساني، وحقا ما يرون، أن من أقوى الآثار في تطوره حدوث الطباعة، فهي الوسيلة التي مكنت العلماء والباحثين من تدوين آرائهم وأفكارهم تدوينا يكفل انتشارها، وييسر اطلاع كل من أراد الاطلاع عليها، فهي لهذا من مقومات المدنية الحديثة، ومن دعائم الحضارة الإنسانية في العصر الحديث. وانتشار الطباعة في بلد ما يدل على انتشار الوعي، وقوة الروح العلمية". والجاسر يبين في المقالة السابقة أهمية الطباعة.
#2#
كانت مكة المكرمة ثاني مدينة في شبه الجزيرة العربية تشهد تأسيس مطبعة بعد صنعاء بعامين. ففي عام 1300هـ / 1881 تأسست في مكة مطبعة الولاية.
وبعد توحيد المملكة العربية السعودية شهدت المنطقة الغربية، في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة تأسيس عدد من المطابع، كما شهدت المنطقة الشرقية تأسيس مطبعتين بداية عام 1374 هـ.

أما في مدينة الرياض فقد أسس حمد الجاسر مجلة "اليمامة" عام 1372 هـ، وصدر عددها الأول في ذي الحجة من هذا العام (أغسطس 1953)، واستمرت في الصدور كمجلة بشكل شهري طيلة عامين..

كانت المشكلة الكبرى التي تعانيها هذه المجلة هي عدم وجود مطابع في مدينة الرياض، ما اضطر القائمين عليها إلى طباعتها خارج الرياض .. وتنقلت مجلة "اليمامة" بين عدة مطابع في مصر ومكة وجدة ولبنان.
#3#
وفي يوم الأحد 1 صفر 1375هـ / 18 سبتمبر 1955 بدأت "اليمامة" بالظهور كصحيفة بشكل أسبوعي، وكان العدد الصادر في هذا اليوم هو عددها الأول. وكان من المستحيل صدورها بشكل أسبوعي دون وجود مطابع في مدينة الرياض.

تأسست مطابع الرياض وبدأت عملها في شعبان من عام 1374هـ بمبادرة من حمد الجاسر، وبمساهمة من أكثر من 200 شخص ... وقد جمع لهذا الغرض – كما في سوانحه - مبلغ خمسمائة ألف ريال من بعض طلاب وأساتذة المعهد العلمي في الرياض، وكلية الشريعة واللغة، ومبالغ أخرى من غيرهم من المساهمين. وظلت الوحيدة في مدينة الرياض حتى عام 1379هـ، إذ تأسست مطابع الجزيرة .. ثم توالت المطابع.

يقول الدكتور عبد العزيز بن صالح بن سلمة في كتابه الرائد "حمد الجاسر ومسيرة الصحافة والطباعة والنشر في مدينة الرياض"، وهم أهم مرجع اعتمدت عليه في هذه المقالة، يقول: "كان إنشاء مطابع الرياض بمبادرة من حمد الجاسر. ولم يحل عدم توافر المبلغ اللازم لديه – وكان مبلغا ضخما بمقاييس تلك الفترة - دون مضيه قدما في تحقيق ذلك المشروع الوطني الكبير آنذاك. قام بطرح اكتتاب عام لسكان مدينة الرياض، أسهم فيه عدد قليل من التجار وبعض المثقفين والوجهاء. وبحكم صلته بالمعهد العلمي وكلية الشريعة، تمكن الجاسر من إقناع عدد غير قليل من طلابهما بالمساهمة في ذلك المشروع". ثم يشير إلى تعضيد الملك سعود وعدد من الأمراء، ودعم عبد الله السليمان، وزير المالية.

بحث الجاسر عن كوادر مؤهلة للعمل في هذا المشروع، ورجل كفء كي يدير هذا العمل. ووجد ضالته في شاب مثقف، وعلى علاقة وطيدة بعالم الصحافة: علي بن حمد العبداني، فأصبح العبداني أول مدير لمطابع الرياض، واستمر مديرا لها بكل كفاءة واقتدار حتى وفاته قرب مدينة جدة في حادث أثناء رحلة عمل عام 1379 هـ.
#4#
كان أول عمل تقوم به مطابع الرياض هو طباعة ملحق على شكل صحيفة نصفية (بحجم التابلويد) وزع مع العدد الثامن من السنة الثانية لمجلة "اليمامة".
قامت مطابع الرياض بدور بارز في الحياة الثقافية في المنطقة الوسطى، فقد كانت المطبعة الوحيدة في هذه المنطقة على مدى 15 عاما منذ تأسيسها..
وطبعت فيها عدة صحف ومجلات منها: صحيفة "اليمامة"، وصحيفة "القصيم"، ومجلة "راية الإسلام"، ومجلة "المعرفة"، ومجلة "معهد الأنجال"، ومجلة "جامعة الملك سعود"، وصحيفة "الخليج العربي"...

كما طبع فيها عشرات الكتب الدينية والأدبية والقصص ودواوين الشعر.. وغيرها. وفيما بعد كان لهذه المطابع دور مكن مؤسسة اليمامة الصحافية من إصدار صحيفة الرياض بشكل يومي عام 1385هـ، وطباعة مجلة "اليمامة" بشكل أسبوعي.

تطورت حركة الطباعة بعد ذلك في مدينة الرياض.. وحالت الظروف دون تطور مطابع الرياض.. لتصبح تاريخا يروى. انتهت المطبعة وانتهى دورها الريادي.. وبقي المكان شاهدا على التاريخ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي