كانافارو .. النموذج أم القدرات؟

أول ما عرفت كرة القدم التكتيك، وبدأت التحول من الهواية الخالصة إلى المنهجية العلمية، كان الهجوم والاندفاع إلى مرمى الخصوم هو عنوانها الرئيس، ولم يكن مستغربا أن تكون طريقة 4/4/2، هي السائدة بوجود مدافعين فقط، مقابل أدوار هجومية صرفة للبقية.
التتبع التاريخي لطرق اللعب، يكشف عن محاولات لم تصمد، أكثرها غرابة، الطريقة الاسكتلندية التي كانت تهاجم بستة لاعبين وتضع اثنين في الوسط ومثلهما في الدفاع، وهي طريقة جعلت اللعبة كلها في الصندوقين، لم تستمر كثيرا، ظهر بعدها منهجية ما سمي بالسلسلة، وهي رصد رأسي للاعبين يتحول إلى ما يشبه الدائرة في الهجوم.
كانت تلك مجرد محاولات، لم تؤسس لمدرسة تدريبية حقيقية، ومع وجود لاعبين مهرة أكثر من غيرهم، أصبحت هذه الطرق الهجومية مغامرة كبيرة لبعض الفرق التي لا تملكهم، ففكر المدربون في طرق جديدة لإيقاف هؤلاء الموهوبين، وكان التفكير بالعودة للدفاع هو الحل، فابتكر الإنجليز طريقة الظهير الثالث أو الـ"wm"، ولم تف بالغرض تماما حتى ظهرت طرق جديدة مثل 2/5/3 و4/2/4، إلى أن عرف العالم الرياضي طريقة 4/2/4 التي منحت المرمى حماية أكبر وتوازنا جيدا مقارنة بالرسوم الميدانية الأخرى، وانتشرت الطريقة كثيرا مع فوز البرازيل بها باللقب العالمي.
استمرت التحولات في كرة القدم، فظهرت 3/3/4، و3/4/3، وكلاهما يعتمد على رأس حربة تقليدي ثابت في الصندوق، وجناحين تقليديين أيضا يمدانه بالكرات. كان التنافس على أشده بين المدرستين الإيطالية والبرازيلية، فاتخذت الأولى شعار الدفاع، والثانية اختارت الهجوم، ويقال إن أول مؤسس للطريقة الدفاعية الإيطالية المعروفة بـ"الكاتيناتشو"، هو الأرجنتيني المولد الإيطالي الجنسية هيريرا هلينيو، فيما تذكر كتب أخرى أنه الجناح الإيطالي نيريو روكو.
استمرت هاتان الطريقتان في التنافس زمنا طويلا، البرازيليون يغيرون لاعبا من الوسط لحساب الهجوم، والإيطاليون يجرون التغيير للاعب هجومي لمصلحة الدفاع، حتى ظهر الإسباني بيب جوارديولا، نموذج العصر لكل المدربين الحاليين؛ فأعاد الشكل التقليدي 3/3/4، لكن بمحتوى جديد تماما، وهو ما يمكن فهمه مزجا واضحا للطريقتين معا.
يعتمد جوارديولا على أربعة مدافعين منهم ظهيران مهاريان، وثلاثة في الوسط كلهم مغموسون في المهارة، وثلاثة مهاجمين ليس بينهم أجنحة تقليدية بل نماذج جديدة لمفهوم الجناح. عند الهجوم يلتحق ظهير بلاعبي الوسط وآخر بالهجوم فيزداد العدد ومع تقدم وسطيين للهجوم تصبح الطريقة فعليا، هجومية بحتة برازيلية، وعند الارتداد يعود لاعبي الوسط فتتحول إلى إيطالية صرفة.
هذه الطريقة أوجدت مفهوما جديدا للاعبين كثر، لم يعد لاعب المحور هو الرجل الذي يلاحق الخصوم ويشاكسهم ويقاتلهم بل تحول إلى ما يشبه رجل التسويق في الشركة، وأصبح الجناح لاعب وسط مهاريا يلعب في كل مكان في الملعب، واختفى الظهير السريع الذي يعرف طريقا واحدا فقط في الملعب ذهابا وعودة. منهجية جوارديولا فتح جديد في كرة القدم تستحق أن تؤرخ به بين مرحلة ما قبل وما بعد.
كل اللاعبين الذين عاصروا بيب جوارديولا المدرب، مغرمون حتى الثمالة بالمدرب الشاب، الذي كسر كل تقاليد التدريب في اللعبة، وعندما اعتزلوا وتوجهوا للتدريب كانت طريقة بيب سحرا يسير في دماءهم، وأحدهم الإيطالي فابيو كانافارو مدرب النصر الحالي.
كانافارو يريد إعادة صياغة المحور في الكرة السعودية كما فعل جوارديولا، ويريد تقديم جناحين مهاجمين لا يشبهان محيسن الجمعان ويوسف الثنيان أبرز جناحين تحتفظ بهما الذاكرة محليا، كانافارو يريد مسح التقليدية الذهنية الرياضية السعودية، وهذا صعب، وصعب جدا أن يتحقق بسرعة وسهولة في بيئة تقدس التمسك بالقديم في كل معايشها.
هل ينجح كانافارو في تصدير الرسم الحديث لـ 3/3/4 للكرة السعودية؟ أعتقد أنه يغامر، وربما ينجح، لكن السؤال الأهم: هل القدرات المتوافرة في فريقه، مناسبة لأفكاره، أم أن إعجابه بجوارديولا يحجب الرؤية الصحيحة عن عينيه؟ أعظم المدربين في العالم هو من يضع خططه وفقا لقدرات فريقه، أما من يحمل معه النموذج في كل المناخات دون مراعاة لتفاصيل البيئة الحاضنة، فهو رجل أسير تجربة رائدة ومغامر قد يحقق نجاحا منقطع النظير أو فشلا سريعا.
أتمنى أن ينجح الإيطالي الأنيق، لسبب واحد، وهو أن التقليدية بنت أعشاشا في الكرة السعودية، حان الوقت لاجتثاثها من جذورها والانطلاق لآفاق جديدة كما يفعل العالم الآخر، ولن يحدث هذا ما لم يصبر النصراويون أنفسهم، حتى يرسموا وجها جديدا لكرة القدم الخضراء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي