السكين والإعلام

«السكين» لها مدلولات كثيرة. لغويا وخطابيا هي مجموعة أحرف وأصوات. "السكين" كلمة، لفظها وأحرفها اتفق عليها الناطقون بالعربية، ولكن هل اتفقوا فيما بينهم على دلالتها في الطبيعة والواقع الاجتماعي كأداة؟
ليس هناك أي شيء في كلمة "السكين" يؤشر إلى كيفية استخدامها من قبل البشر. وكان في الإمكان أن يطلقوا على هذه الأداة أي كلمة أخرى.
كلمة "السكين" قد تكون بريئة عندما تشير إلى استخدامها كأداة قطع ذات فائدة للإنسان. وقد تكون كلمة ذات مدلول غير حميد عند استخدامها أداة في الحرب أو أداة للتعدي على الآخرين أو وسيلة خطابية لفرض وجهة نظر وميل ورأي واحد.
"السكين" شأنها شأن أي كلمة أخرى في اللغة لها سيمائية. وهذا معناه أنها تغير لباسها ومدلولها حسب استخدامنا لها. "السكين" كشكل في الكتابة وصوت في اللفظ لا تتغير. ما يتغير هو سيمائيتها، أي مدلولها الذي يستند إلى طريقة استخدامنا لها.
في اللغة والخطاب تبقى كلمة "السكين" ثابتة دون تغير. بيد أن موقعها ضمن الجملة، ما يأتي قبلها وبعدها والسياق الذي استخدمت فيه، يؤشر إلى مدلولها في الطبيعة إن سلبا أو إيجابا. وبينما تبقى "السكين" ككلمة ثابتة في اللغة والخطاب، استخدامنا لها كأداة يعكس معاني ومواقف مختلفة.
"السكين" كحروف وأصوات ليست موجودة في العربية كلغة فقط. كلمة "السكين" موجودة في كل اللغات في الكون. كل لغة لها ما يشير إلى "السكين" كتابة ولفظا حسب نظام أبجديتها وأصواتها.
الاختلاف اللفظي والكتابي للإشارة إلى كلمة محددة من لغة إلى أخرى شيء بدهي وطبيعي. ما الخطب إذا؟ وما الإشكال إن كانت كل لغة في العالم تملك حروفا وأصواتا للإشارة إلى "السكين"؟
المشكلة تكمن في الطريقة التي نستخدم بها "السكين". هذه الأداة تعمل في الطبيعة والواقع الاجتماعي بأشكال مختلفة. بإمكاننا استخدامها للخير وبإمكاننا استخدامها للشر.
ماذا تفعل اللغة؟
اللغة أداة أيضا. كما أننا نطوع السكين لتأدية الأغراض التي نحتاج إليها، كذلك اللغة فإنها تطوع لخدمتنا. اللغة تعكس وتفسر وتحدد وتؤطر كل ممارسة اجتماعية وثقافية نقوم بها ومنها طريقة استخدام "السكين" في حياتنا.
ونحن لا نختلف على لفظة وكلمة "السكين." نختلف كثيرا ونتصارع على المدلولات والتفسيرات ووجهات النظر التي نقدمها لطريقة استخدامنا لها في الطبيعة.
"السكين" قد تصبح أداة دبلوماسية. وقد تصبح رمزا للتحرر من الظلم. وقد وتصبح أداة إرهابية. وقد تصبح الوسيلة الوحيدة المتوافرة لشعب مظلوم للدفاع عن نفسه. هذا إضافة لوظيفتها الأساسية في مساعدتنا على أداء مهمات بيتية ومهنية يومية لا يمكن القيام بها من دونها.
في يد الفلسطيني الذي يدافع عن عرضه وأرضه، "السكين" صارت أداة للتحرر من الظلم. يتغنى بها الشعب الفلسطيني اليوم ويتباهى بها. إنها وسيلته الوحيدة لتوصيل صوته إلى العالم بعد أن حاصره العالم ومنع عنه كل وسيلة متاحة لمقاومة الظلم.
ولأن "السكين" تحولت من أداة في المطبخ إلى أداة لمقاومة احتلال مدجج حتى أسنانه بأفتك الأسلحة الحديثة، صار لهذه الكلمة بعد اجتماعي وثقافي وسياسي ودبلوماسي وإعلامي جديد.
إسرائيل التي مضى على احتلالها الأراضي الفلسطينية نحو ستة عقود، صارت توازي بين مدلول "السكين" في المطبخ ومدلول دباباتها وأسلحتها وطائراتها الحديثة الفتاكة التي لا حدود لقوتها التدميرية. لا بل إن إسرائيل ومن خلال حملة إعلامية هائلة استطاعت أن تدخل في عقول الكثيرين من الناس، لا سيما في الغرب، أن "السكين" أشد فتكا من القنابل التي تزن الأطنان والتي كانت ترميها على الأحياء السكنية في غزة.
ومن خلال الإعلام صار الطعن "بالسكين" أشد وقعا على الناس من القصف بالطائرات المسيرة وغير المسيرة التي تفتك بالفلسطينيين نساء وأطفالا وشيوخا.
ونسي الناس، من خلال إعلام موجه ومتحيز يفتقر إلى أبسط معايير الموضوعية والنزاهة، ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني.
وصار الناس يتصورون أن كل المشكلة هي "السكين". أما الاحتلال والمستعمرات وجدار الفصل والحصار والقصف وتهديم البيوت وتحويل المدن والقصبات إلى سجون كبيرة فهذا كله سببه "السكين".
وآخر من تم خداعه من قبل الإعلام الإسرائيلي والغربي وغيره الذي يساير وجهة نظر واحدة لا غيرها، كان الرئيس الأمريكي أوباما الذي ندد بإرهاب "السكين".
وهكذا لاحظنا وفي غضون فترة وجيزة كيف تغيرت السيمائية الثقافية والاجتماعية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية لكلمة "السكين." كتابة ولفظا هي ذاتها. مدلولا، حدث انقلاب كبير في معناها.
والناس تركض وراء وجهة نظرها، ولكن قلما تحدد الناس وجهة نظرها بنفسها. النظم والمؤسسات، لاسيما الإعلامية منها، هي التي تحدد اليوم وجهة نظر الإنسان لما حوله وواقعه الاجتماعي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي