سيمائية «الكلمة»

نشرت في هذا العمود مقالا بعنوان "دبلوماسية الكلمة". وحسب ظني أثار الموضوع نقاشا في بعض الأوساط الإعلامية العربية.
اختيار الكلمة موقف. نحن نختار، وخيارنا في الغالب يعبر عن ميولنا. وإن أردنا النزاهة، يجب أن نبعد عن خيارنا الميول والتحزب والتحامل والمحاباة.
هناك من يقول إن كل كتابة وخطاب موقف. إن الكاتب مهما حاول التقرب من النزاهة، لن يستطيع التخلص من ذاتيته. يضيف هؤلاء ويدعون أن الخطاب الإعلامي في الدنيا برمتها غير محايد وغير نزيه. ويقولون إن النزاهة في الكتابة أمر شبه مستحيل لأننا لا نستطيع التخلص من ميولنا.
الادعاء شيء والواقع شيء آخر. ينسى الإعلاميون العرب أن المهمة الأساسية للكتابة في وسائل الإعلام ليست التعبير عن الذات.
الإعلامي ناقل للمعلومة وليس مخترعا أو خالقا لها. الكتابة لوسائل الإعلام مهنة. وهذه المهنة تتطلب مهارة فائقة في استخدام الأدوات الخاصة بها.
نقل المعلومة يحتاج إلى أدوات، والأداة الأساسية هي اللغة.
واللغة علامات، كل علامة لها دالة. العلامة لا معنى لها ما لم نضعها في سياقها. السياق هو الدالة التي ترشدنا إلى المعنى.
الإعلام سلاح بتار، والسلاح هذا لا يشوه الحقيقة فقط، يشوه العلامات أيضا. كل علامة نسبغ عليها توصيفا للانتقاص من الآخر، وكأننا أحدثنا تشويها في سيماء اللغة.
وجه الإنسان هو علامة. وجه الإنسان فيه دلالات كثيرة ضمن السياق الذي يظهر فيه. دالة الحزن والفرح يؤشر عليها الوجه من خلال سيمائيته.
لا أعلم هل فكرنا في الجهد الشاق والتضحية التي نقدمها للتحول من سيمائية محددة لوجوهنا إلى سيمائية أخرى. النحيب ليس سهلا، وسيماء الوجه النحيب نصل إليها بعد تضحية كبيرة.
والكلمة مثل الوجه ضمن سياقها، حتى الناس نعرفهم من خلال سيماء الوجه، والكلمة نعرفها ضمن سياقها.
كما نحن نغير سيماء وجهنا، كذلك نحن نختار سيماء كلماتنا. كما نحن ننتقل من سيماء الحزن إلى سيماء الفرح، كذلك ننتقل من النزاهة إلى الانحياز والتحزب والتعصب والتحامل والإجحاف في انتقاء الكلمة وسياقها.
بيد أن هناك فرقا بين سيمائية الوجه وسيمائية الكلمة. الوجه جزء من جسدنا. كل واحد منا يملك وجهه. وسيماء الحزن والفرح التي تظهر علاماتها على الوجه تخصنا نحن وأثرها السلبي والإيجابي نعانيه نحن بصورة مباشرة.
سيماء وجهنا توصيف لنا، أي نحن نختار علامة وجهنا التي تعبر عن مكنوناتنا.
سيماء الكلمة أو سيمائية الكلمة حاجة أخرى في الإعلام. ما تتركه العلامة (الكلمة أو اللغة) من أثر، لا يعانيه أو يتأثر به الكاتب أو الوسيلة الإعلامية.
العلامة هذه، عكس علامة الوجه، تؤثر في الآخرين إن سلبا أو إيجابا. سلاح الإعلام هو الخطاب. والخطاب الإعلامي أمضى سلاح، وأكثر فتكا من أي سلاح.
والسلاح هذا لا يرتد علينا في الغالب كما ترتد علامات وجهنا علينا. أثر السلاح هذا يعانيه المتلقي، أي عامة الناس الذين نحولهم إلى علامة تشبه سيماء الوجه.
وبواسطة هذه العلامة نحركهم يمينا أو يسارا. نثيرهم ونشتتهم. نجعلهم أعداء أو أحبابا. نقحمهم في موجة من الكراهية والبغضاء وندخلهم في جنة المحبة والسلام.
سيمائية الكلمة وسيلة غالبا ما نسيء استخدامها، لا سيما في الإعلام العربي. سيمائية الكلمة في الإعلام العربي انتقائية بصورة متعمدة. غاية الانتقاء هي تبجيل ومديح الذات والانتقاص من المختلف.
وبدلا من تربية الأجيال على ممارسة سيمائيات مختلفة، تتربى هذه الأجيال فقط على سيمائية الجانب الواحد والرأي الواحد.
وتتربى الأجيال على أن هذه هي السيمائية الوحيدة المتوافرة لهم وغيرها من العلامات لا وجود له وباطل.
ويصبح مثلهم مثل الوجه الذي له سيمائية واحدة فقط لا تتغير أبدا. وهذا الوجه لا وجود له في الحياة. موجود فقط في التماثيل والأصنام.
والإعلام الذي يتشبث بسيمائية واحدة "وجهة نظر واحدة" يصبح مثله مثل التمثال والصنم. ولن نجافي الحقيقة إن قلنا إن أغلب الإعلام العربي ذو سيمائية واحدة فقط.
في آخر لقاء لي مع إعلاميين عرب بارزين قالوا، ودون وجل أو ارتباك، إنهم ينتقون العلامات التي تعبر عن ميولهم وثقافتهم وموقفهم ووجهة نظرهم من الأزمات التي تعصف بالمنطقة.
وقالوا إن العلامات التي تعبر عن الرأي المختلف "سيمائية مختلفة" ينبذونها لأنهم وأصحابهم ومجموعاتهم ومؤسساتهم وفرقهم على حق.
أقرب مثل لوصف إعلام هكذا هو "السيمائية الواحدة التي لا تتبدل التي نستقيها من وجه الصنم".
ولكن هل يعلم هؤلاء الإعلاميون ما يحدثونه من أذى لا يمكن تحديد مداه في بنية المجتمعات التي يخاطبونها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي