Author

فجوة الغذاء العربي

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"أنا أتيت من عائلة، كانت تعتبر الدسم في طعامها امتيازا" إيرما بومبيك كاتبة أمريكية الأرقام الأخيرة التي طرحتها المنظمة العربية للتنمية الزراعية والثروة الحيوانية حول الفجوة الغذائية في العالم العربي، تعتبر جيدة، بل يمكن أن تدخل سياق توصيف "غير المتوقع". وإضافة إلى ذلك، إنها واعدة، رغم كل السلبيات التي لا تزال تضرب "الكيان" الغذائي العربي. هذه الأرقام تطرح بحد ذاتها تساؤلات عديدة، في مقدمتها مدى دقتها أولا، على الرغم من كل التقدير للمنظمة، وعدم الشك في أهليتها ضمن اختصاصها. وهذا التساؤل على وجه الخصوص ينبع من أن المنظمة العربية للتنمية الزراعية اعتبرت أن الفجوة الغذائية تراجعت إلى 34 مليار دولار، بينما قدرت "قمة الأمن الغذائي العالمي"، التي عقدت في دبي في شباط (فبراير) الماضية، حجم هذه الفجوة بأكثر من 128 مليار دولار. وكما نلاحظ هنا، الفجوة كبيرة جدا بين الرقمين، والفارق الزمني بينهما لا لا يزيد على ستة أشهر. في كل الأحوال، هناك مؤشرات على تراجع حجم الفجوة الغذائية العربية المشار إليها، ولكن علينا أن نبتعد عن مقارنة الأرقام؛ لأن هذه الأخيرة تتحول إلى حالة غير معقولة من جراء المقارنة. ومما لا شك فيه أن بعض المشاريع التي طرحت في السنوات القليلة الماضية أسهمت إلى حد كبير في تضييق هذه الفجوة، وفي مقدمتها مبادرة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز للاستثمار الزراعي في الخارج، وبعض المبادرات في السودان، ومخطط المغرب العربي الأخضر، واستراتيجية تنمية الثروة الحيوانية في سلطنة عمان، والمبادرة الزراعية العراقية، وغيرها من خطط أو مشاريع خطط. كل هذه الخطط والمبادرات، تمت الإشارة إليها في الاجتماع الأول "للجنة التوجيهية لاستراتيجية التنمية الزراعية العربية المستدامة للعقدين 2055-2025"، الذي عقد في الخرطوم الأسبوع الماضي. يكتسب هذا الاجتماع أهمية؛ لأنه الأول من نوعه على الصعيد العربي؛ ولأنه أيضا يحاكي المستقبل وفق أسس استراتيجية أكثر استدامة، خصوصا إذا استطاع القائمون على هذه اللجنة أن يقوموا بمهامهم بسهولة، وأكثر مرونة على الساحة العربية بشكل عام. فكلما زاد حجم الفجوة الغذائية العربية، ارتفعت المخاطر التي تهدد الأمن الغذائي العربي. ولكن مهلا، هل هناك منظومة حقيقية للأمن الغذائي العربي؟ لا.. لا توجد ضمن هيكلية معينة، ولا شك في أن جزءا رئيسا من مهام اللجنة التوجيهية المشار إليها، هو هيكلة هذا الأمر بصورة مادية ملموسة، تحاكي ليس فقط الاحتياجات الآنية أو تلك المرتبطة بالمدى المتوسط، بل الاستحقاقات المنتظرة أو المفاجآت المحتملة. وهذا بالتحديد ما يفسر اعتراف المشاركين في الاجتماعات الخاصة بالغذاء العربي، بأن الاكتفاء الذاتي من الغذاء لا يزال منخفضا. وببساطة إذا لم يكن هناك اكتفاء ذاتي، فلن يكون هناك أمن غذائي يشمل المنطقة، بصرف النظر عن النيات الصادقة والأماني الجميلة. كما أن هناك الكثير من الثغرات، بما في ذلك، عدم وضوح شكل العلاقة بين القطاعين العام والخاص على الصعيد الزراعي. ويبدو واضحا أن هذا القطاع (كبقية القطاعات في البلدان العربية) يحتاج إلى تعاون واضح بين العام والخاص، إلى أن يصل أو يدخل في مرحلة الاستدامة. فالطريق لا تزال طويلة نحو هذه المرحلة، حتى في ظل نجاح سلسلة من المشاريع التي وضعت أهدافا استراتيجية لها، أكثر من الأهداف الربحية الآنية. لا تتوقف الأمور على الصعيد الغذائي العربي عند الاستثمارات والتعاون وتبادل الخبرات والتنسيق الإنتاجي وغير ذلك، بل تشمل استحقاقات مناخية، بعض المختصين يصفها بالخطيرة جدا. فالتغير المناخي ينعكس بصورة مباشرة على الإنتاج الزراعي والحيواني في أغلبية مناطق العالم. وتقول منظمة الأغذية والزراعة العالمية بوضوح "إذا لم تطبق أساليب جديدة، فإن رقعة الأراضي القابلة للزراعة والقادرة على الإنتاجية ستنخفض في عام 2025 إلى ربع المساحة المنزرعة، التي كانت عام 1960 بسبب تزايد السكان وتدهور التربة". إنه تحذير عالمي خطير يضاف إلى التحذيرات الأخرى التي تختص بالجانب العربي. وهو أمر ينبغي أن يكون ضمن الأولويات في المرحلة المقبلة. لا توجد منطقة في هذا العالم محصنة من التبدل المناخي الخطير، الذي يمكننا أن نراه بصورة شبه يومية حول هذا الكوكب. سواء كانت الفجوة الغذائية العربية تساوي 34 مليار دولار أو 128 مليار دولار، فإن العمل على تضييقها لن يكون سهلا، كما أنه يحتاج إلى وقت لن يكون قصيرا، خصوصا عندما يكون الأمر وفق منهجية استراتيجية لا آنية ولا ارتجالية. وعلى الرغم من كل التحذيرات والعقبات والاستحقاقات والمفاجآت، الكثير من الفرص والمساحات الاستثمارية الغذائية الهائلة متاحة على الساحة العربية. هناك بعض الفرص الهائلة بقيمتها لا تحتاج إلا لبعض التطمينات الحكومية فقط، وأخرى تتطلب إزالة بعض السلوكيات البيروقراطية القاتلة لأي حراك وإبداع تجاري استثماري اقتصادي، بصرف النظر عن طبيعته. وبمجرد النظر إلى بعض الحالات السائدة حاليا، يمكن أن تحدد بسهولة فجوات ظاهرة فيها. وإذا ما تم تضييق هذه الفجوات أو إغلاقها إلى الأبد، فإن فجوة الغذاء العربي ستغلق تدريجيا وبأقل التكاليف الممكنة.
إنشرها