Author

السلطة الحكومية لتوجيه القطاع الخاص وليس العكس

|
السلطة العامة قوة جماعية لإدارة المجتمع وتحقيق المصلحة العامة وحماية الناس من بعضهم بعضا، وتقنين العلاقة بين أفراد المجتمع. فقرارات وتصرفات الأفراد ليست رشيدة في كثير من الأحيان، أو أنها تتعارض مع الصالح العام. والسبب أن الأفراد بالفطرة يقدمون مصالحهم الذاتية على المصلحة الجماعية. وعلى أن هذه الأنانية الفردية هي التي تحقق الكفاءة في القرارات الخاصة أو ما يسمى بإنتاجية القطاع الخاص، إلا إنها تتعارض في كثير من الأحيان مع المصلحة العامة التي يصعب على الأفراد إدراكها من منظور فردي. فالمنفعة أو التكلفة العامة يجب النظر إليها بعين الجماعة ومن خلال رؤية وقناعة مشتركة، لأن المنفعة أو التكلفة الجماعية ذات أثر متعدٍ يؤثر في جميع أعضاء المجتمع. على سبيل المثال من مصلحة جميع أفراد المجتمع دون استثناء تحقيق السلم الاجتماعي وجودة البيئة والصحة العامة والتعليم العام. وإدراك ذلك يكون من خلال تصور أن المدينة أو الوطن الذي نعيش فيه هو البيت الكبير، وأن على سكان ذلك البيت الاهتمام به بشكل جماعي وتعاوني وإلا افتقد مقومات العيش الصحي وجودة الحياة والعدالة الاجتماعية. من أجل ذلك تتولى الحكومات قيادة التنمية من خلال وضع سياسات عامة تحقق الاستدامة والتنمية المتوازنة. إن من الخلل أن تستهوي صانع القرار الحكومي كفاءة القطاع الخاص ومن ثم يفسح المجال لرجال الأعمال لتولي قيادة التنمية عبر مبادرات تحقق مصالحهم الخاصة على حساب المصلحة العامة. وعندما تغيب المصلحة العامة في العملية التنموية يؤدي ذلك إلى فساد مقنن. فالفساد هو استخدام السلطة العامة لتحقيق المصالح الخاصة. وهنا يلزم التفريق بين مفهومي الكفاءة والفاعلية، لأنه ليس من المهم فقط الإنتاج بأقل تكلفة وجهد ووقت، ولكن الأهم إنتاج ما يطلبه المجتمع ويسهم في قوته الاقتصادية وتحقيق العدالة في توزيع الدخل. ولذا يفترض أن يكون تشجيع الاستثمارات الخاصة مرهونا بتحقيقها المصلحة العامة. على سبيل المثال يتم وضع سياسات لدعم المستثمرين طالما أن استثماراتهم تولد وظائف تناسب مؤهلات الباحثين عن العمل، وفي الوقت ذاته تضيف قيمة إلى الاقتصاد الوطني وتجعله في ترتيب تنافسي أعلى عالميا. إلا أن الوضع الاقتصادي الراهن يعاني ظاهرة اقتيات القطاع الخاص على الدعم الحكومي المالي والإداري، حيث لا يكاد القطاع الخاص يستمر دون ذلك الدعم. ليس ذاك فحسب ولكن الأدهى والأمر أن القطاع الخاص أصبح يوجه قرارات الاستثمار الوطني "توظيف السلطة العامة لمصلحته" من خلال اقتراح مشاريع هي في معظمها استهلاكية سريعة الربحية تناسب العمالة الأجنبية الرخيصة، وقد يكون جلها يعمل بأسلوب التستر. وهذا في الحقيقة استنزاف للثروة الوطنية كما ونوعا يصل حد تهديد أمننا الوطني ومستقبلنا الاقتصادي. كل ذلك بحجة تطبيق نظام السوق، وهي حجة واهية غير مقبولة خاصة عندما نعلم أن القطاع الخاص يشترط الدعم الحكومي الكامل في كل مشاريعه، من التمويل بقروض دون فائدة إلى ضمان شراء المنتج في نظام المشتريات الحكومية. ومع ذلك نجد القطاع الخاص المعفى من دفع الضرائب أو الرسوم لا يكاد يسهم في الدخل الوطني، وهذا يشكل خللا في عدالة توزيع الدخل الوطني، إذ إن استفادة المستثمرين من الدعم الحكومي في معظم الحالات تحقق المصالح الفردية على حساب المصلحة العامة. إنه من الصعب بل من الخطأ التفريط في قدسية السلطة العامة وقوتها التي تستمد شرعيتها من العقد الاجتماعي لمصلحة القرارات الخاصة. فمن أهم الأدوار المناطة بالسلطة العامة الحفاظ على المصلحة العامة والحقوق العامة وما ينفع المجتمع بجميع مكوناته ويحقق العدل والأمن والعيش الكريم لأفراده والقوة والمنعة للوطن. ومن هنا كان من اللازم إدراك ميزة القطاع الحكومي بامتلاكه حق التوجيه العام وفرض المصلحة العامة بقوة القانون. لا شك أن صانع القرار الحكومي يواجه معضلة الموازنة بين الحلول السريعة والحلول الجذرية، وربما دفعه استعجال الحلول الوقتية إلى الاعتماد على القطاع الخاص ليس في التنفيذ وحسب، لكن في وضع قائمة المشاريع التنموية، وهذه هي المعضلة التي تعانيها التنمية الوطنية بعدما أصبح المستثمرون يمنحون التراخيص للمشاريع دون ربطها بأهداف استراتيجية وطنية. لقد مضى وقت طويل استحوذت فيه مجموعة من الشركات لا تتعدى أصابع اليد الوحدة على نصيب الأسد من الدخل الوطني ما قلل من تأثير الإنفاق الحكومي السخي في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وعدم تطوير الإنتاج الوطني بالمستوى الذي يتناسب مع ذلك الإنفاق. ولا شك أن هناك كثيرا من المشكلات الهيكلية التي تستدعي تدخلا حكوميا يوجه القرار الاقتصادي للأفراد والشركات بما ينسجم ويحقق المصلحة العامة. فليس المهم فقط صعود سلم التنمية، إنما الأهم وضع السلم على الحائط الصحيح. ولذا يقع على عاتق الأجهزة الحكومية وضع الاستراتيجيات التي توجه القطاع الخاص وتضبط قراراته بما يحقق المصلحة العامة بدلا من الحالة السلبية التي يعانيها، حتى أصبحت المصلحة العامة تعني تحقيق المصالح الخاصة. وهذا ما لا ينسجم مع حقيقة أن السلطة الحكومية لتوجيه القطاع الخاص وليس العكس!
إنشرها