هل تستطيع بكين أن تعين واشنطن في أزمات الشرق الأوسط؟
بعد الدور الذي لعبته بكين ضمن مجموعة 1+5 للتوصل إلى اتفاقية لوزان حول الملف النووي الإيراني، تساءل الكثيرون إن كان الوقت قد حان لتستعين واشنطن بجهود بكين في حلحلة الأزمات الأخرى التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية القصوى للاستراتيجيات الأمريكية، وفي مقدمة هذه الأزمات الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي يشكل حله مدخلا ضروريا لحل بقية الصراعات، ولا سيما أن بكين لها دالة عند الفلسطينيين باعتبارها كانت من أوائل القوى العالمية التي أيدت منظمة التحرير الفلسطينية سياسيا ومعنويا وزودتها بالسلاح، ناهيك عن أنها تتمتع اليوم بعلاقات وروابط جيدة مع تل أبيب سياسيا واقتصاديا وتجاريا وعلميا واستثماريا، بل تتمتع أيضا بمستوى العلاقات نفسه مع الدول العربية.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق الإشارة أن بكين هي من كبار المستثمرين في وادي السيليكون الإسرائيلي ومن شركاء تل أبيب التجاريين الكبار، فيما تعتبر تل أبيب أكبر ثاني مصدر للتكنولوجيا العسكرية بالنسبة للصين. وفي الوقت ذاته تعتبر بكين أحد أهم المستوردين للنفط العربي بدليل أنها استوردت نصف وارداتها النفطية البالغة 6.2 مليون برميل في عام 2014 من دول الخليج وشمال إفريقيا. إلى ذلك تعتبر بكين أحد أهم الشركاء التجاريين للدول الخليجية والعربية، ناهيك عن وجود استثمارات حالية واسعة لشركاتها الكبرى في المنطقة العربية واستثمارات موعود بها مستقبلا ضمن خطة إحياء طريق الحرير، وهي خطة تستهدف إنفاق نحو 50 مليار دولار في مشاريع السكك الحديدية والطرق البرية وأنابيب النفط والخطوط البحرية والبنى التحتية اللازمة لربط الصين برا وبحرا بدول آسيا الوسطى وغرب آسيا وأوروبا الغربية. وكل هذا، بطبيعة الحال، ميزة تنفرد بها بكين ولا مجال لمقارنتها بميزات واشنطن المفتقرة إلى سياسات واضحة على شاكلة سياسة طريق الحرير لجهة إحداث نقلة تنموية واقتصادية في المنطقة.
من الجدير بالذكر أيضا أن المبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط السفير "جونج زياو شينج" كان قد أعلن خلال زيارته إلى فلسطين هذا العام أن بلاده تأمل أن تؤدي خطة طريق الحرير إلى إحداث نقلة تنموية تسهم في صنع السلام في المنطقة، عبر ملامسة عناصر عدم الاستقرار في المنطقة بطريقة مبتكرة لم ينجح فيها كل محاولات السلام السابقة الخاصة بإحداث ثغرة في جدار العداء التاريخي العربي ــ الإسرائيلي. كما أن السفير جونج أشار في السياق نفسه إلى الدور المأمول من بنك الاستثمار والبنى التحتية الآسيوي (بنك تتمثل فيه دول شرق أوسطية معنية بتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة مثل السعودية ومصر والإمارات والكويت والأردن وسلطنة عمان وقطر) لجهة مساندة الصين في خطتها المذكورة.
الذين طرحوا مثل هذا السؤال وفي مقدمتهم الدكتور "ديفيد لاي" أستاذ شؤون آسيا الأمنية والاستراتيجية في الكلية الحربية الأمريكية يتبنون الفكرة ويدافعون عنها بقوة، منطلقين من جملة من الحقائق لعل أهمهما أن واشنطن هي سبب من أسباب التوتر في الشرق الأوسط، وبالتالي فإن من كانت هذه صفته لا يمكنه المساعدة في إيجاد الحلول المطلوبة، فهي مثلا بوقوفها في صف إسرائيل ضد العرب لا يمكن القبول بها وسيطا لتحقيق حل عادل للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهي بتسببها في تفتيت العراق وما نجم عن ذلك من تمزيق لحمته الوطنية واستشراء العداء المذهبي والعرقي بين مكوناته جعلها قوة معادية عند المكون العراقي السني، وهي بتخبطها في ملامسة الملفات السورية واليمنية والإيرانية وتكرار حديثها عن ضرورة التغيير الديمقراطي في الخليج صار ينظر إليها من قبل حلفائها في الخليج كحليف غير موثوق وإن قيل خلاف ذلك في التصريحات الدبلوماسية.
في المقابل تبدو بكين في وضع أفضل بكثير من واشنطن. فالصين ليس لها ماض كولنيالي أو إمبريالي، ولم تتورط كثيرا في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، وليست لديها أجندات دينية أو سياسية مع أو ضد هذه الجماعة أو تلك من الجماعات المتصارعة في المنطقة، ولا تضغط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمر الذي يؤهلها لتكون وسيطا مقبولا في عديد من الأزمات الشرق أوسطية، خصوصا أنها تسعى منذ بعض الوقت إلى ترجمة صعودها الاقتصادي المذهل وعلاقاتها التجارية القوية مع اللاعبين الكبار في العالم بصفة عامة وفي منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة إلى لعب دور سياسي أقوى على الساحة الدولية.
واستنادا إلى المعطيات السابقة يقترح "لاي" وغيره من المراقبين والمحللين على واشنطن، الفاقدة تحت إدارتها الأوبامية الحالية، لأي رؤية استراتيجية واضحة فيما يخص قضايا الشرق الأوسط أن تسارع إلى وضع مثل هذه الاستراتيجية، وأن تفسح المجال لبكين للعب دور مساعد فيها أو تحميلها مسؤوليات معينة لجهة إخراج المنطقة من اضطراباتها وصراعاتها الدموية الشائكة، طالما هي عاجزة عن القيام بذلك بمفردها.
غير أن مثل هذا الاقتراح يصطدم بحقيقة أن واشنطن لا ترغب في ترك المنطقة وشأنها، مثلما هي لا تريد أن تقاسمها قوة أخرى في خيراتها وأهميتها الاستراتيجية، خصوصا إذا كانت هذه القوة هي الصين الصاعدة اقتصاديا وعسكريا إلى حد التنافس مع السطوة الأمريكية.
ذلك أنه من السخف بمكان أن تساعد واشنطن بكين في الحلول مكانها في الخليج حيث النفط والممرات الاستراتيجية الرابطة بين الشرق والغرب وصفقات الأسلحة المحركة لمصانعها العسكرية، أو أن تتخلى لها عن العراق الذي أنفقت مليارات الدولارات من أجل احتلاله وتشكيل صورته الحالية، أو أن تترك يدها طليقة في إيران ما بعد رفع العقوبات الأممية عنها، أو أن تترك مصير الطفل الإسرائيلي المدلل بيد من هم أبعد ما يكونوا عن مبدأ ضمان أمنه وبقائه. والحقيقة التي لا جدال فيها هي أنه لولا اعتماد الصينيين على أنفسهم في تقوية أذرعتهم الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي فرض أنفسهم كرقم صعب في المعادلات الإقليمية والدولية لما سمحت لهم واشنطن بموطئ قدم في الشرق الأوسط، بل لما وافقت أن يكونوا في عداد مجموعة 1+5.