سياسة إسكان لتوزيع المهام بين القطاعين العام والخاص

يمثل الإسكان مشكلة خاصة بالأفراد وفي الوقت ذاته قضية عامة يمتد تأثيرها إيجابا أو سلبا في الأمن والاقتصاد الوطني. ولذا كان إدراك الموازنة بين القرار الخاص والقرار العام في صنع سياسة الإسكان أمرا في غاية الأهمية. وترتكز مهمة الحكومة في تهيئة الظروف الصحيحة لاتخاذ القرارات الاستثمارية والاستهلاكية على حد سواء. فمن جهة تشجيع المستثمرين على الاستثمار في قطاع الإسكان تخطيطا للأراضي، وتوفيرا لمواد بناء وإعمارا للمساكن، وتسويقا وصيانة. ومن جهة أخرى، تقديم الدعم للأفراد الأقل حظا في المجتمع لمساعدتهم في الحصول على السكن المناسب إيجارا أو تملكا. إن الهدف الأساس من سياسة الإسكان هو خفض تكلفة السكن في قطاع الخدمات السكنية "الإيجار" أو في قطاع الاستثمار "التملك". وتحقيق ذلك لا يتأتى إلا من خلال زيادة المخزون من المساكن، أي يجب التركيز على جانب العرض وليس فقط جانب الطلب، لأن زيادة الطلب دون زيادة المعروض هي السبب في تضخم أسعار المساكن. ويكون السؤال الرئيس الذي يواجه واضعي سياسات الإسكان هو: كيف السبيل إلى زيادة المعروض من الوحدات السكنية وجعل تكلفتها في متناول الفئات المجتمعية في المستويات الأدنى اقتصاديا؟ وقد يكون الاعتقاد أن على الحكومة أن تقوم بشكل مباشر بتوفير الوحدات السكنية للمواطنين أمرا قد يصعب تحقيقه. لقد ثبت أن نظام السوق يحقق التوازن بين الطلب والعرض على الأقل في المدى الطويل بشرط أن يتم العمل في ظل المنافسة الكاملة، حيث تعكس الأسعار القيمة الحقيقة للأراضي والوحدات السكنية. وهنا لا بد من تدخل الحكومة لضمان عدم احتكار الأراضي وفي الوقت ذاته دعم التوسع في شركات مواد البناء. ومتى ما توافرت المنافسة الكاملة فإن ذلك سيؤدي إلى خفض الأسعار إلى مستوياتها الحقيقية وبما يتناسب مع دخول الأفراد. ومن المهم هنا معرفة دور الحكومة مقارنة بدور القطاع الخاص، فلا يصح أن تقوم الحكومة بأدوار القطاع الخاص، والعكس صحيح. وقد يكون إقطاع الأراضي مثالا واضحا في قيام القطاع الخاص بالتملك لأراض هي في أصلها عامة، وكان من المفترض أن يعهد للقطاع الخاص تطويرها ومن ثم بيعها عبر البلديات في مزاد عام مع تخصيص نسبة من الأراضي للأقل حظا في المجتمع. والقاعدة في تحقيق التوازن بين القرار الحكومي والقرار الخاص هي أنه كلما كانت القرارات الخاصة تؤدي إلى المصلحة العامة تم قبولها وتشجيعها، وإلا فلا، وهذا يقتضي بالضرورة وضع مؤشرات تحدد المصلحة العامة مثل انخفاض تكلفة الأراضي والمساكن وتوافرها كما ونوعا وجودة.
هناك جهود كبيرة تبذلها الحكومة ومخصصات مالية كبيرة لكنها تحتاج إلى صياغة سياسة شاملة ومنظومة متكاملة لصناعة الإسكان، تحوي جميع الأطراف المتداخلة في تكوينه من ملاك الأراضي ومخططين وممولين ومقاولين ومسوقين ومستهلكين. وتكون مهمة سياسة الإسكان إيجاد وضع يكون مربحا للجميع. فدور الحكومة رسم خريطة طريق تقود جهود الإسكان، وتضبط نشاط المتداخلين فيه وتحقق التوازن في سوقه. المشكلة عندما يتم التركيز على جزئية التمويل على حساب الاشتراطات التي تضمن خفض التكلفة ورفع الجودة وزيادة أعداد المساكن. وحتى في جانب التمويل الضيق لم يتم بطريقة كفؤة، حيث يتم استهداف الأقل حظا في المجتمع بل العكس تماما استفاد من قروض صندوق التنمية العقارية الميسورون على حساب المعسرين، الذي يفترض أن الصندوق أنشئ من أجلهم. وقد تكون سياسة القروض الحكومية في مرحلة تنموية مقبولة لتجاوز أزمة السكن في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن مشكلة الإسكان في الوقت الراهن أصبحت أكثر تعقيدا وتستلزم حلولا أكثر كفاءة واستدامة وشمولية. وهذا يعني أن وزارة الإسكان لا تستطيع وحدها القيام بمهمة إقرار سياسة إسكان شاملة دون تعاون الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة والمصارف. ولأن هناك حاجة ماسة إلى صياغة سياسة إسكان تحدد ما ينبغي عمله؟ وأين؟ ولمن؟ ومتى؟ وكيف؟ فقد يتولى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية مهمة إقرار مثل هذه السياسة.
لقد حان الوقت لأن يقوم القطاع العام بمهامه التوجيهية والتشجيعية عبر حزمة من السياسات، بينما يتولى القطاع الخاص مهمة التنفيذ. وفي هذا السياق يجب أن تكون الثقة بالقطاع الخاص في معالجة مشكلة الإسكان داخل إطار السياسة الحكومية والأهداف الوطنية الاستراتيجية التي يراد تحقيقها. ومن المهم إدراك أن لكلا القطاعين العام والخاص جوانب إيجابية وأخرى سلبية، ويلزم العمل على الاستفادة من كل قطاع فيما يجيده. القطاع العام بطيء، لكنه هو الضامن للمصلحة العامة، بينما القطاع الخاص أكثر كفاءة ولكن تعيبه الأنانية والاستحواذ وتحقيق المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة. دون سياسة إسكان شاملة ستظل جهودنا في تلبية الطلب على السكن مبعثرة وغير كفؤة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي