مرض القطط الراقصة
نبقى في اليابان للحديث عن مشكلات تلوث المياه بالمواد الكيماوية. ذكرنا سابقا أن تلوث مصادر المياه هو السبب الرابع لمشكلات المياه عالميا. واطلعنا على تلوث المياه الجوفية "مياه مدينة هنكلي في كاليفورنيا" في قصة إيرين بروكوفيتش بسداسي الكروم وكذلك تلوث المياه السطحية "نهر جينزو في اليابان" بالكادميوم. أما اليوم فسنستعرض قصة تلوث كيماوي آخر ولكن هذه المرة لمياه البحر. الهدف هو التأكيد مرة أخرى على خطر التلوث بالمواد الكيماوية وضرورة المراقبة الدءوبة لهذه المواد. أما السبب الآخر والأهم فهو لدحض الفكرة الرائجة عند العامة بأن البحر قادر على استيعاب جميع الملوثات الكيماوية وبالتالي لا ضير من إلقائها باستمرار هناك.
في عام 1908 افتتح مصنع تشيسو Chisso Corporation لإنتاج الأسمدة في مدينة ميناماتا Minamata الواقعة في مقاطعة كوماموتو في أقصى جنوبي اليابان. لم تكن المدينة حينذاك شيئا مذكورا. لكن ومع توسع الشركة ـــ إذ اتجهت من إنتاج الأسمدة إلى إنتاج مواد كيماوية أخرى كالأسيت ألدهايد Acetaldehyde الذي كانت تنتج منه ربع الإنتاج القومي في منتصف القرن العشرين ــــ ذاع صيت المدينة في اليابان. ولإنتاج هذه المادة تحديدا, كانت الشركة تستخدم مركبات الزئبق لتسريع التفاعل. وكانت المخلفات الصناعية الناتجة عن هذه التفاعلات والمحملة بالزئبق ــــ تحديدا مادة Methyl mercury ــــ تلقى في مياه خليج ميناماتا مباشرة ودون أي معالجة. لم يكن هذا التصرف بدعا آنذاك. فكثير من المصانع كانت ـــ والبعض منها ما زالت ــــ تلقي بالمخلفات الصناعية المحملة بأنواع السموم الكيماوية مباشرة في البحر ظنا منها ــــ أو تجاهلا عن عمد ـــ بأن البحر قادر على استيعاب هذه المواد وتحليلها. بل كان السائد آنذاك أن هذا هو التصرف الصحيح، فالمواد الكيماوية لم تكن تلقى في الأنهار أو في باطن الأرض. فلم الاعتراض إذا وأين مكمن الخطورة؟
مع مرور الوقت كانت مركبات الزئبق الشديدة السمية تتراكم في البيئة البحرية لخليج ميناماتا ـــ مصدر صيد الأسماك الرئيس لأهالي المدينة. ومع تناول الأسماك ــــ الوجبة الأولى في اليابان ـــ بدأت الأعراض في الظهور في عام 1956. ومع نهاية العام، كانت الحالات المسجلة في حدود الخمسين حالة. قدر عدد المصابين بـ 2265 عام 2001 توفي أكثر من نصفهم. لاحقا وجد الباحثون أن عينات من شعر المصابين كانت تحوي 700 جزء في المليون من الزئبق ــــ التراكيز في الأشخاص غير المصابين في خارج المقاطعة لم تكن تتعدى أربعة أجزاء في المليون! كانت الأعراض متشابهة وغريبة في آن واحد. فكان المرضى يعانون من فقدان للإحساس في أطرافهم حتى يصعب عليهم القبض على أسهل الأشياء. وكانوا أيضا يعانون ضعفا متزايدا في النظر والسمع وفقدان القدرة على الكلام بشكل واضح. أعراض غريبة لم يرها الأطباء أو حتى يسمعوا بها من قبل والأغرب أنها امتدت لتنال الحيوانات الداجنة كالقطط أيضا التي اعتادت أن تقتات على الأسماك. فهذه ولسوء حظها أصابتها الأعراض نفسها فلم تكن تبصر أو تمشي بشكل صحيح بل كان مشيها أقرب منه إلى الرقص حتى أن السكان أطلقوا على المرض اسم "مرض القطط الراقصة". بعد ثلاث سنوات من البحث والتقصي والاستعانة بالخبرات الأكاديمية المحلية بل حتى الدولية، توصل اليابانيون إلى سبب المرض الغريب وهو التلوث بمركبات الزئبق السامة الموجودة في خليج المنطقة. عرف المرض لاحقا بمرض ميناماتا وهو مرض يصيب الجهاز العصبي بشكل رئيس نتيجة التلوث بالزئبق.
بعد سنوات قليلة وبعد أن ظن اليابانيون أن خطر التلوث بالزئبق Methyl Mercury قد زال للأبد، ظهرت ذات الأعراض لمرض ميناماتا في مقاطعة نيجاتا Niigata الواقعة في وسط الأرخبيل الياباني ــــ ولهذا سمي المرض بنيجاتا ميناماتا تمييزا له عن المرض الأصلي. في سنة ظهور المرض عام 1966 سجلت 26 حالة إصابة. المتهم الأساسي لهذه الكارثة كان شركة شوا دينكو الكيماوية التي كانت تلقي ــــ ومن دون مبالاة ـــ بمركبات الزئبق السامة في نهر أجانو. مثال آخر لجشع المصانع وغياب المسؤولية الاجتماعية بل الإنسانية في ظل قوانين بيئية معدومة ــــ أو غير ملزمة.
بعد حوادث ميناماتا ومن ثم نيجاتا ميناماتا وقبلهما إيتاي إيتاي، استشعر المسؤولون اليابانيون أهمية الحراك المؤسساتي المنظم للتصدي لهذه الكوارث وتشديد المراقبة على مكونات الصرف الصناعي لمنع تكرارها وهو ما نتج عنه إنشاء "القانون الياباني للحد من تلوث المياه". فاليابان كانت آنذاك تشد الخطى للحاق بركب الدول الصناعية مع إهمال للجانب البيئي مع الأسف، ما نتج عنه كوارث بيئية كالتي ذكرناها، التي سميت لاحقا بالكوارث الأربع الكبرى – الحادثة الرابعة لم تكن تسمما للمياه، بل تلوث للهواء بثاني أكسيد الكبريت في يوكايتشي.
هذه القصة وغيرها تبرز أهمية المراقبة الصارمة لمياه الصرف الصناعي ـــ حتى تلك التي تلقى في مياه البحار والخلجان. فخطورة التلوث الصناعي هو في عدم القدرة ــــ في الغالب ــــ على ملاحظته إلا بعد فوات الأوان. فتلوث المياه بالكادميوم مثلا لم يكن ملاحظا بالعين المجردة ـــ بل ولا بأساليب التحليل البسيطة. الحل إذا هو بمراقبة المصدر ــــ المصانع الكيماوية ــــ مراقبة صارمة ومستمرة وإلزام تلك المصانع بمعالجة كل المواد الكيماوية قبل إلقائها في المسطحات المائية.