جوليا روبرتس وتلوث المياه

في عام 2000 حصلت جوليا روبرتس على جائزة الأوسكار للمرة الأولى في تاريخها، نتيجة تقمصها المذهل لشخصية محامية شابة من كاليفورنيا وقفت ندا ضد إحدى أكبر الشركات في أمريكا في ذلك الوقت. في هذا المقال – وخلافا للعنوان- سنتحدث عن تلك المحامية الشابة إيرين بروكوفيتش (Erin Brockovich) وليس عن جوليا روبرتس. الطريف أن جوليا تقمصت شخصية إيرين في الفيلم في حين ظهرت إيرين في ذات الفيلم باسم جوليا.
ولدت إيرين باتي – التي اتخذت لقب زوجها بروكوفيتش لاحقا - في مدينة لورنس عاصمة ولاية كنساس, الولاية الريفية الواقعة في وسط الولايات المتحدة. انتقلت لاحقا مع أهلها إلى ولاية كاليفورنيا الغنية، حيث ترعرت وتوجت وهي شابة في العشرين بلقب ملكة جمال منطقتها. إضافة إلى جمالها, فقد اكتسبت إيرين الشخصية المتسائلة الشكاكة من والدها المهندس الصناعي وكذلك حب الفضول والبحث عن الحقيقة من والدتها الصحفية. وهذه الصفات قادتها لاحقا للفوز بأكبر قضية تسوية من نوعها في تاريخ أمريكا من دون أن تمتلك أي خلفية قانونية. فلنبدأ من البداية.
في جنوب كاليفورنيا وعلى أطراف صحراء موهافي الشهيرة تقع بلدة هنكلي الصغيرة، حيث تحتضن البلدة محطة لضخ الغاز الطبيعي من جنوب كاليفورنيا إلى شمالها. هذه المحطة التي أسست عام 1952 هي إحدى المحطات التابعة لشركة غاز وكهرباء المحيط الهادي (Pacific Gas & Electric) التي تمد الولاية بالغاز الضروري لتوليد الكهرباء. في قلب عمليات التشغيل, كانت هناك أبراج للتبريد باستخدام الماء. لمقاومة الصدأ كانت المحطة تضيف مركبات الكروم السداسي كمانع للصدأ (Hexavalent Chromium) تماما كما نضيف مقاوم الصدأ لراديتور السيارة. بعد فترة, يتم تغيير الماء ويلقى بالماء المستخدم – والملوث بسداسي الكروم- في برك خارج المحطة. لم تكن هذه البرك تحتوي على أية وسائل لمنع تسرب الماء الملوث (Liners) للمياه الجوفية وهو ما حدث. لسنين عديدة كانت المياه الجوفية في بلدة هنكلي- وهي المصدر الوحيد لمياه الشرب- تتلوث بمركبات الكروم السداسي، وهو ما أدى إلى ظهور إصابات عديدة بالسرطان بين السكان. كان متوسط تركيز سداسي الكروم في مياه هنكلي الجوفية يبلغ 1.19 جزء في المليار, وهو على صغره إلا أنه يعادل 60 ضعف التركيز المسموح به في الولاية.
مركبات الكروم السداسية هي مركبات تحوي الكروم في حالة أكسدة سداسية وهي مواد مسرطنة محتملة. إضافة إلى مقاومة الصدأ فهي تستخدم في صناعة الحديد ومواد الطلاء. بسبب خطورتها تم وقف أغلب الاستخدامات الصناعية لمركبات الكروم السداسي في التسعينيات. هذه الخطورة كانت معروفة للعلماء, إلا أنهم كانوا يعتقدون بخطورتها عند الاستنشاق فقط. ولهذا كانت حادثة هنكلي سببا دعا العلماء إلى دراسة خطورة هذه المواد عند شربها أيضا.
نجحت إيرين بمحاولاتها الدؤوبة وإصرارها على مقاضاة شركة غاز وكهرباء الهادي بسبب تلويث مياه هنكلي الجوفية. في النهاية تمت تسوية القضية عام 1996 حين دفعت الشركة مبلغ 333 مليون دولار. واصلت إيرين مقاضاة الشركة ذاتها بسبب تلوث المياه الجوفية بمركبات الكروم السداسية في أماكن أخرى وأصبحت إيرين بعدها ناشطة بيئية في مجال حماية المياه الجوفية من الملوثات الصناعية.
أنتجت أخيرا فيلما وثائقيا بعنوان "النداء الأخير على جانب الواحة" للتوعية بمشكلات تلوث المياه في الولايات المتحدة. كانت قضية هنكلي بمثابة حجر الدومينو، حيث تم الكشف عن كثير من حالات التسمم بمركبات الكروم السداسي في ميدلاند تكساس وشيكاغو وميلواكي بل حتى في أستراليا. وفي دراسة حديثة جدا لمياه الشرب في 35 مدينة أمريكية, ثبت وجود تلوث بمركبات الكروم السداسي في 31 مدينة وبمعدلات عالية دون معرفة المصدر. ففي مدينة ميدلاند الصغيرة بغربي ولاية تكساس الجنوبية عثر فريق إيرين في عام 2009 على معدلات عالية جدا لمركبات الكروم السداسي في المياه الجوفية للبلدة. كانت الشكوك تحوم حول شركات التنقيب عن النفط في المنطقة التي كانت تستعمل مواد كيميائية يعتقد أنها السبب الأول والرئيس في تلوث المياه الجوفية. لكن لم يتمكن الفريق البحثي من تأكيد ذلك، والسبب هو أن هذه المواد وهذه الشركات محمية من الكشف عن نوعية هذه المواد لأي جهة كانت – حتى لوكالة حماية البيئة الأمريكية - بموجب قانون أقره الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش. عرف هذا القانون في الأوساط البيئية Halliburton Loophole)) أو ثغرة هالبيرتون – شركة التنقيب الأمريكية سيئة السمعة. المضحك المبكي في الأمر أن من أكثر المدن التي تأثرت من هذا القانون هي ميدلاند، وهي المدينة التي قضى فيها جورج بوش مراهقته وهي أيضا مسقط رأس زوجته لورا.
قصة إيرين بروكوفيتش هي مثال يحتذى به ليس فقط للمحامين بل لكل النشطاء للوقوف في وجه الصناعات الكبيرة عندما تلوث المصادر الطبيعية التي هي حق للكل. هي أيضا دليل على أن الجميع يستطيع النجاح؛ فإيرين لم تكن إلا مساعدة قانونية في مكتب محاماة بسيط لكنها تغلبت على شركات كبرى وانتبهت إلى ما غفل عنه علماء وجمعيات بيئية متخصصة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي