ضرب الفنجال بالدلة
من الأصول المرعية والمتبعة في تقديم القهوة في سنوات خلت، أن الذي يصبها يقوم بضرب الفنجال بثعبة (فم) الدلة عند الانتهاء من صبها مباشرة، وقبل تقديم الفنجال للضيف، بحيث يلامسه ملامسة خفيفة تحدث صوتاً جميلاً. وكانت هذه العادة شائعة بشكل كبير في كثير من الدول العربية التي اعتاد أهلها شرب القهوة العربية، ولا تزال حتى اليوم موجودة لكن بشكل أقل، بسبب استغناء البعض عن شرب القهوة من الدلة والاستعاضة بالحافظة (الزمزمية أو الترمس)، كما أن البعض رأى أن هذه العادة تتسبب في ثلم الفناجيل وكسرها، لأن الكثير لا يتقنها اليوم مثل الأوائل الذين كانوا يعملونها بطريقة رائعة تحدث رنة موسيقية جميلة.
ومن المعروف أن القهوة –قهوة البن- انتشرت وعرفت في العالم العربي في القرن العاشر الهجري. لكن هذه العادة سابقة على ذلك، ويبدو أنها معروفة عند العرب منذ الجاهلية عند تقديم الشراب، لأننا نجد نصاً شعرياً عند شاعر ولد في الجاهلية وعاش عمراً طويلاً حتى عصر الدولة الأموية، وقدروا وفاته نحو سنة 80هـ، وهذا النص يدل على انتشارها، فهو يتحدث عنها كعادة معروفة عند الناس. هذا الشاعر هو أبو معرض المغيرة بن عبد الله بن مُعَرِّض بن عمرو، المعروف بالأقيشر الأسدي، وكان ماجناً متهتكاً يكثر من شرب الخمر ونعتها. يتحدث الشاعر عن ضياع ماله في الإنفاق على الأصحاب وتقديم الخمر لهم فيقول:
لا تشربن أبداً راحاً مسارقةً
إلا مع الغر أبناء البطاريقِ
أفنى تلادي وما جمعت من نَشَبٍ
قرع القواقيز أفواه الأباريقِ
والشاعر يشير في البيت الثاني إلى كرمه وأنه سبب ضياع ماله مفتخراً أن الكرم هو سبب إفلاسه, ويرمز إلى كرمه بكثرة تقديمه الشراب لضيوفه, ويشير إلى أن الأقداح كانت تقرع بأفواه الأباريق عند سكبها. وقد شرح هذه الأبيات ابن منظور في (لسان العرب) مادة (ققز)، وبين كيف تتم هذه العملية, ومما جاء في كلامه: "التِّلادُ: المال القديم الموروث. والنَّشَبُ: الضِّياع والبساتين التي لا يقدر الإنسان أَن يرحل بها. والقواقيز: جمع قاقوزة، وهي أَوانٍ يشرب بها الخمر.. من رفع أَفواه الأَباريق جعلها فاعلة بالقَرْع، وتكون القواقيز في موضع مفعول تقديره أَن قرعت القواقيزَ أَفواه.. ومن نصب الأَفواه كانت القواقيز فاعلة في المعنى، تقديره أَن قرعت القواقيزُ أَفواه.. والمعنى واحد لأَن الأَباريق تقرع القواقيز والقواقيز تقرع الأَباريق، فكل منهما قارع مقروع".
فالقواقيز أوان يشرب فيها كالأقداح, وذكر بعض علماء اللغة أنها الطاس التي يصب فيها الخمر, أمـــا الزبيدي في (تاج العروس) فقال: هي الفناجين التي يشرب بها الشراب.
مما سبق يتبين أن هذه العادة قديمة تعود إلى الجاهلية، وهي في أقل تقدير تعود إلى القرن الهجري الأول. وحاولت أن أعرف سببها ولماذا يقوم الساقي بقرع القدح، فلم أجد نصاً فيما بحثت فيه من كتب التراث. ويهيأ لي أنها عملت في الأساس تنبيهاً للضيف حتى يتلقى القدح أو الفنجال إن كان غافلاً، ثم درج عليها الناس وأصبحت من عاداتهم.