نهج الملك سلمان: الموازنة بين المركزية واللامركزية

«إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة»، هكذا يمكن وصف أسلوب الملك سلمان القيادي الذي نلحظه في قراراته الجريئة والحاسمة والمناسبة. بدأها منذ اليوم الأول لتوليه سدة الحكم بتركيز المجالس والهيئة الحكومية المبعثرة واختصارها في مجلسي الأمن والشؤون السياسية والاقتصاد والتنمية لرفع مستوى التنسيق الوطني في مجالي التنمية الاقتصادية والأمن الوطني. ليمثل المجلسان نافذة نطل منها على حاضرنا ونستشرف مستقبلنا ومن ثم التحرك في الاتجاه الصحيح. إنشاء المجلسين إعلان صريح ببدء نهج جديد في جهود الإصلاح الإداري، نهج يتناسب مع وقع المتغيرات ومتطلبات العصر والأهم يربط بين التكوين الإداري والاستجابة لاحتياجات ومشكلات المجتمع والموازنة بين متطلبات الحاضر واستحقاقات المستقبل. لقد أصبح لدينا رؤية شمولية للواقع الوطني نتعرف من خلالها على نقاط القوة والضعف والفرص والتحديات. إنها البوصلة التي ستوجه العمل الوطني التنموي وتحدد أولوياته بما يتفق واحتياجات المجتمع. إن تركيز النشاط الاستراتيجي للعمل الحكومي في مجلسين يحدد المسؤوليات ويحظى بمتابعة المواطنين. بل إن المجلسين يمثلان غرفة عمليات لإدارة التنمية الوطنية ومتابعة المشاريع والسياسات الحكومية، ما يجعل الوزراء تحت ضغط عالٍ ومستمر لإنجاز مهامهم على الأرض وهو أمر لم يكن يحدث في السابق على الأقل مؤسسيا. هذه المتابعة المهنية من خلال المجلسين ستدفع وتحفز المسؤولين الحكوميين لعمل الأفضل كما ونوعا وجودة. ما نشهده من إصلاح إداري يرتكز على تحول سريع وعملي من خلال حكومة تكنوقراط برؤية ومؤشرات أداء واضحة ومتابعة مهنية دقيقة. إنه عهد جديد مبني على العمل والإنجاز ولا غير! لم يعد التضخيم الإعلامي والأنشطة الشكلية تكفي للحصول على تقييم أداء عالٍ. فالملك سلمان رجل متمرس وصاحب تجربة إدارية ثرية وعملي ومنظم حتى النخاع ويهوى الإنجاز ولديه معيار مهني يحكم فيه على أداء القيادات الإدارية. لقد أضحى جليا أن هناك عزما لمواجهة المشكلات المجتمعية برؤية مؤسسية تطور صناعة القرار الحكومي وتجعله أكثر استجابة لمطالب وتوقعات المواطنين. وكأن شعار المرحلة هو جعل الأجهزة الحكومية في خدمة الناس وليس للاستحواذ البيروقراطي أو الهيمنة والسيطرة والحصول على أكبر حصة من الموارد المتاحة.
من أجل ذلك كانت القرارات الأخيرة في إعادة توزيع المهام على الوزارات المختصة بدلا من تركيزها في وزارة المالية استكمالا للتوجه الملكي في جعل الأجهزة الحكومية أكثر قربا واستجابة للمواطنين. إنه قرار حكيم يعالج الترهل الذي أصاب الأجهزة الحكومية ويحدد مسؤولياتها ومهامها حسب تخصصها. ويبرز هنا وبشكل خاص وزارة المالية. فعلى الرغم من أنها قامت بدور مقدر في التنمية الوطنية في فترة تأسيس الدولة، إلا أنه من غير المناسب أن تستمر في الدور ذاته مع إنشاء وزارات متخصصة وأن تستحوذ على كثير من المهام والإشراف على عدد كبير من الهيئات والمجالس الوطنية وهي خارج تخصصها. لقد كان ذلك في زمن الاستحواذ البيروقراطي، فالوزير القوي ومن يرغب في بناء المجد الشخصي والمكانة والوجاهة يعمل جاهدا على ضم أكبر عدد من الأنشطة والهيئات ما استطاع لذلك سبيلا. كما أن التطور التاريخي لوزارة المالية التي كانت من أوائل وزارات الدولة أنيطت بها عديد من المسؤوليات وعندما أنشئت الوزارات لم تتخل عن بعض تلك المهام بسبب التملك البيروقراطي والنهج الذي تكون داخلها في أنها المسؤولة عن إدارة الاقتصاد الوطني والقلب النابض للدولة. ولذا لم يكن مستغربا ألا يتم نقل المهام الاقتصادية إلى وزارة الاقتصاد والتخطيط حتى صدر القرار الملكي الأخير بهذا الخصوص. هذه التصحيحات الإدارية تنبئ عن فكر إداري عميق ومعايشة للتحديات وفهم لواقع العمل الحكومي وحرص على ما ينفع الناس وليس البيروقراطيات العامة. فالقرار حدد هوية ودور وزارة المالية كوزارة خزانة، أما مهمة تحديد الأولويات التنموية وتوزيع الموارد، فهي مناطة بوزارة الاقتصاد والتخطيط ومراجعة مجلس الشورى.
في ظل هذه الترتيبات الإدارية الجديدة سيشهد المجتمع قفزة نوعية ليس فقط في توجيه الإنفاق الحكومي حسب الأولويات الوطنية والمصلحة العليا للبلاد، وإنما وهو المهم إعادة توزيع الدخل بحيث يستفيد جميع المواطنين ولو بنسب متفاوتة من الإنفاق السخي للدولة. أجزم ـــ بمشيئة الله ــــ أن يتم من خلال هذه الإجراءات الإدارية معالجة الكثير من المشكلات المزمنة مثل البطالة والسكن والعنوسة والجريمة وجميعها مترابطة ومتداخلة فيما بينها. هذه التنظيمات الجديدة توازن بين التركيز الإداري وعدم التركيز على مستوى الأجهزة المركزية وهو أمر يحسب للقيادة السياسية. والقراءة التحليلية لاتجاه الإصلاح الإداري الذي يقوده الملك سلمان هو في تطوير الإدارة المحلية بالتخفيف من المركزية ومنح مجالس المناطق صلاحيات أكبر تمكنها من القيام بمسؤولياتها وتتناسب مع حجم التحديات التي تواجهها. فالسعودية جغرافيا مترامية الأطراف وتتفاوت فيها الثقافات المحلية بين المناطق. وتنبع أهمية الحديث عن الإدارة المحلية في أن هناك الكثير من المشكلات المحلية التي تتطلب حلولا محلية وهذا ما لا تستطيعه الأجهزة المركزية، فهي يفترض أن تكون من اختصاصات مجالس المناطق والمحافظات والبلديات. كما أن وجود هيئات محلية منتخبة تسهم في إدارة تنمية محلية مستدامة، وكذلك تضييق نطاق الإشراف يمنح الأجهزة الحكومية سيطرة أكبر على الأوضاع في المحليات. إذ تكون هذه الهيئات بمنزلة المسؤولة عما يجري في نطاقها المكاني سواء في جانبه الأمني أو التنموي. كما أن تمكين مجالس المناطق والمحافظات والبلديات من شأنه الإسهام في تحقيق التنمية المتوازنة بين المناطق والمحافظات والبلدات ويوجد تنافسا تعاونيا تكامليا ـــ إن صح التعبير ـــ بين المناطق.
لا شك أن هناك ارتياحا شعبيا ورسميا حول الإجراءات التنظيمية يمكن استطلاعه مما يتداول في قنوات التواصل الاجتماعي والتقارير الميدانية والحوارات في قنوات الإعلام الرسمي. فالقرارات الملكية هي في جوهرها إعادة الثقافة التنظيمية ورسم دور جديد للأجهزة الحكومية يعامل فيها المواطن كعميل يكون الهدف رضاه. ولذا يتطلع المواطنون إلى مزيد من الإصلاحات الإدارية التي تصب في مصلحة المواطن والوطن ليس لمنافع آنية للأفراد وإنما في تطوير الهيكل الاقتصادي والصناعي الذي سيعالج الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية ويمكن السعودية من المنافسة والاستفادة من مخزون الموارد البشرية الوطنية المؤهلة. والموازنة بين المركزية واللا مركزية هو سر النجاح في توجهات الملك الجاد الحازم القريب من شعبه الذي يقودهم بمبادرات شجاعة وجسورة برؤية واضحة وحكمة بالغة. إنها قيادة أبوية تجمع بين الشدة والرحمة وهذا ما ينشده الشعب السعودي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي