الرهان على الضمير
إننا نتحدث كثيرا عن "الضمير" ونقحمه في الحكم على مواقفنا وأفعالنا وتصرفاتنا فيما إذا كانت عادلة صادقة أم هي غير ذلك، بل إننا نشهر هذا الضمير في وجوه بعضنا بعضا على سبيل المنافحة عن استقامتنا ونزاهة إنسانيتنا لكي نستجلب الطمأنينة والرضا لنفوسنا ونجنبها الندم أو تأنيب الضمير وتبكيته.
رغم ذلك .. فإنه يتعذر علينا إدراك ما نعنيه بـ"الضمير" ويصعب علينا أن نتفق على مفهوم معين له وأن نحدد تعريفا علميا يبين حقيقته وطبيعته ومكمنه وهل له حيز بيولوجي في الجسد أم أنه قرين الوجدان أو النفس؟!
كان الضمير في الأساس بمثابة الشريعة الفطرية عند الإنسان، لكنه مع التطور تحول إلى مركب من الخبرات والمبادئ والقيم والأحاسيس والمشاعر الرفيعة مثل الإيثار والمروءة والصدق والعدل، يعمل كميزان حساس للتمييز بين الصواب والخطأ أو الطيب والخبيث أو الحق والباطل، بينما يقول بعض العلماء إن الضمير وظيفة من وظائف الدماغ توازن عقليا بين الأمور، أما السيكولوجيون فينظرون إليه على أنه جهاز نفسي تقييمي يمثل الأنا العليا أشبه ما يكون بجبل الجليد، الجزء الأكبر منه غاطس في اللاشعور والظاهر يمثل الشعور.
لكن ثقافتنا العربية تكاد تخلو من بحوث أو دراسات تتناول موضوع (الضمير) من حيث تكوينه وبنيته أو صفة وجوده والعناصر التي تحدده وعلاقته بالتفكير والعقل والإحساس والمؤثرات الاجتماعية والنفسية والبيئة ونظام المعرفة ومستوى الوعي والثقافة ومنظومة القيم والمبادئ والأخلاق السائدة وكذلك قوة الشخصية أو ضعفها وشجاعتها أو جبنها..
وأكبر ظني أن ذلك يعود إلى كون مفهوم الضمير في البلدان العربية لم يصبح في مجال التداول كمعيار للنزاهة والاستقامة يهرع إليه للتحكيم وفض النزاع إلا مع اتصالنا بالغرب في أوائل القرن التاسع عشر إبان عصر النهضة العربية، ولعل هذا يفسر غياب الدراسات حول موضوع "الضمير" وعدم الاهتمام به، حتى وإن وجدناه حاضرا في بعض عناوين الكتب مثل كتاب طه حسين (مرآة الضمير الحديث) أو الكتاب المترجم (فجر الضمير) لجيمس هزي بريستد، فالأول ليس بحثا في الموضوع والثاني دراسة في شريعة الفراعنة كما نجده في الكتابات الإعلامية الثقافية التي تستصرخ ضمير الأمة أو ضمير الإنسانية أو الضمير العالمي، فضلا عن حضوره المكثف في علوم اللغة العربية وفي العلوم الدينية منذ عصر التدوين نحو: ضمير مخاطب، ضمير متكلم، ضمير مستتر، ضمير غائب، ضمير متصل وضمير منفصل..إلخ.
ومن العجيب أننا في الوقت الذي نثابر فيه على الإحالة إلى (الضمير) والدفع به إلى صدارة القول ونراهن على حياديته الصرفة وعلى حساسيته الفائقة في الحكم بجدارة على كل إشكالية تلتبس فيها الحقائق.. فإننا، سرعان ما ندفع هذا (الضمير) أيضا إلى منطقة تجاذب وتشكيك فيه بمجرد الاختلاف حول حكمه ولو على جزئية مما هو مدار السجال.. ما يدل على.. أننا بقدر ما نبديه من اتفاق (نظري) على جدارة الضمير في الحكم بقدر ما نشكك فيه على الصعيد العملي.. ولعل السبب في حدوث هذا التناقض يعود إلى غياب المفهوم المعرفي الحقوقي للضمير في ثقافتنا العربية.. وأن تشوش تصور ماهية (الضمير) في أذهاننا هو ما أدى إلى تشوش مماثل في المصادقة على حكمه.. وبالتالي الوقوع تحت طائلة القاعدة الشرعية (الحكم على الشيء فرع من تصوره).!!
من هنا نستطيع القول إن (الضمير) لا يمكن الرهان على أن يكون نزعة خيرية كاملة تامة دائما.. إذ مهما لعبت العفة والنزاهة والاستقامة من أدوار في حراسة يقظته، فثمة إمكانية لاستغفاله سواء من قبل النفس الأمارة بالسوء في الشخص نفسه أو من قبل الآخرين ..الأمر الذي يؤكد على الأهمية القصوى في أن تكون سلطة القانون فوق الضمير مهما كان صاحبه مبجلا!