ماضي المستقبل

في الوقت الذي سقطت فيه الأندلس، كان كولومبس يكتشف أمريكا، شرق يغيب وغرب يشرق.. وفيما كانت أم عبد الله الصغير "آخر ملوك الطوائف" في لحظة انكسار عربي تاريخي فاجع تقول لابنها: "ابك مثل النساء ملكا مضاعا.. لم تحافظ عليه مثل الرجال". كان كولومبس المنتصر في عام 1504، يهدد الهنود الحمر بأنه لن يعيد إليهم القمر. وقد خُسف.. إذا لم يعطوه ما يريد من مؤونة فانصاعوا لأمره.
والسؤال: هل حقاً قال كولومبس للهنود قولته تلك، أم هي أسطورة الأساطير المؤسسة للمنتصر؟ وبالمثل هل فعلا قالت أم عبد الله مقولتها تلك، أم هي أيضا أسطورة المنكسر المهزوم؟
ليس بوسعي التحقق في الحالتين؛ لأن هذا حفر معرفي لا سبيل عندي إليه.. غير أن المقولتين للموقفين المتعاكسين لهما في ثقافتنا على طول تاريخنا ما يشابههما من مقولات ذات علاقة بمفاصل تاريخية درامية أو لحظات زمنية فارقة، سواء على صعيد المعارك والحروب، أو على صعيد الصراعات والسجالات السياسية والفكرية، وكذلك هو الأمر نفسه مع ثقافات العالم كلها لنأخذ مثلا عبارة "نقاش بيزنطي" التي يقال إنها ولدت كنوع من التعبير الساخر عن اللغط العبثي عند أهل بيزنطة الذين بلغت بهم البلادة واللامبالاة حد الإمعان بالمماحكة في النقاش حول جنس الملائكة: ذكور أم إناث في وقت كان فيه الغزاة يدهمون بلادهم، وحتما لا يمكن ابتلاع هذه الأسطورة على هذا الوجه بقدر ما هي إشارة مكثفة إلى أن بيزنطة قد بلغت ذروة القابلية للاستيلاء عليها.. لأسباب اقتصادية وسياسية.. أو ربما إلى درجة إنضاجها لطابور خامس قدم بيزنطة للغازي!
في المقابل، لدينا في تاريخنا العربي أسطورة فتح الخليفة العباسي المعتصم مدينة عمورية، التي كرس لها أبو تمام قصيدته المشهورة "السيف أصدق أنباءً من الكتب"، حيث تحكي أن علجا من علوج الروم لطم امرأة عربية في أسواق عمورية فصرخت مستنجدة "وا معتصماه!"، فجهز المعتصم جيشا عرمرما على الفور ودحر الروم وفتحها.. ونحن لو صدقنا ذلك فلن نكون سوى موافقين على أن المعتصم كان خليفة هايفا أحمق طائشا يتحرك بردة الفعل، وليس سياسيا مسؤولا له حساباته الخاصة.. علما أن إغراء هذه الأسطورة قد تحول في الفن إلى حقيقة وأمثولة، فقد قال عنها أبو ريشة "رب وامعتصماه انطلقت.. ملء أفواه البنات اليُتَّمِّ"، لكن ينفي أن الواقعة برمتها لا يمكن أن تكون على هذا النحو وأنه لا بد أن وراءها مبررات استراتيجية، وأن المخطط مبيت أصلا لانتزاع عمورية من الروم.
يمكن أيضا أن نجد للأسطورة حضورها في المجال الثقافي.. ولنأخذ مثلا موت الكاتب الكبير "الجاحظ"، فقد زعمت كتب التراث أنه مات مدفونا تحت أكوام الكتب بعدما انهارت عليه مكتبته.. فلو حاولنا كشف الغطاء عن الباعث الأسطوري في هذه الحكاية، فنحن أمام أمرين: إما أن الجاحظ مات ميتة طبيعية، فشاءت المخيلة الحكائية أن توائم ميتته مع شهرته ككاتب تعمر بيته مئات الكتب والمخطوطات، فاخترع الراوي للإثارة حكاية سقوط كتبه عليه، أو ربما أن الجاحظ نفسه تهاوى تحت تأثير نوبة قلبية أو جلطة دماغية، فاصطدم بكتبه فانهارت عليه، أما الاحتمال الآخر فقد يكون ضحية جناية مذهبية أو سلطوية تلاشت فيها معالم الجريمة.
تاريخ العلم نفسه لم يسلم من هيمنة الأسطورة، ولعل تفاحة إسحاق نيوتن واحدة من أشهر الأساطير العلمية؛ إذ يقال إن إسحاق نيوتن توصل إلى قانون الجاذبية حين رأى تفاحة تسقط من الشجرة على الأرض، وأن ذلك أوقد ذهنه للبحث والتعليل حتى توصل إلى قانون الجاذبية.. وطبعا ليس من المعقول أن إسحاق نيوتن لم يسترع انتباهه سقوط الكثير من الأشياء باستمرار أمام عينيه إلا حين رأى تلك التفاحة؛ لأننا لو سلمنا بهذا لكان معنى ذلك أن نيوتن أبله غفلا لا يلاحظ ما يحدث حوله، بينما الأمر على العكس تماما.. لكن هذه الأسطورة مجرد وسيلة جذب لفتح شهية العوام لقبول ما لا يقبل، فالأمر كان يتطلب لمن قدم حكاية هذا الاكتشاف أن يضع له مبررا شيقا مثيرا يهيئ الذهنية لاستقباله.
الأسطورة إذن سمة الفكر والسلوك الإنساني، وغير مقصورة على مجال بعينه، وإنما هي في مختلف الحقول والأنشطة، كما أن الأسطورة تتسم بالامتداد عبر الزمن أكثر من الحقيقة، ليس لأنها مهمة وجوهرية، بل لأن غرائبيتها تجعلها عابرة للذهنيات فتناقلتها الأجيال شفاهة في الأغلب، إلا أنها تمثل دائما وأبدا ماضي المستقبل، فالأسطورة ابنة الماضي فحسب، وما من أسطورة تأتي من المستقبل ولا حتى من الحاضر.
وإذا تأملنا في تاريخ البشرية وفي كل ما جرى، فسنجد أن كثيرا مما كان يعتقده القدماء، ليس في الأزمنة البعيدة القصية فقط، وإنما قبل أمد قصير عند أجدادنا، فما ظنوه حقيقيا صحيحا ثبت أنه مجرد نوع من نتاج الخيال أو التهيؤات والمعتقدات الشعبية.. خرافيا أو أسطوريا، جاء التقدم فبرهن على هرائه.. وبهذا المعنى لا تكون الأسطورة وحدها ماضي المستقبل، بل التاريخ برمته هو كذلك وهو ماض لا يمكن طمسه أو تغييره، إلا أن المدى يبقى دائما مفتوحا لفهمه وتقييمه وإعادة وضعه في السياق المعرفي العلمي والموضوعي، ليس من أجل إعادة الاعتبار للماضي وإنما لتحرير المستقبل ما أمكن من الخداع والدجل تحت أي مسمى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي