الوزراء الجدد .. تطويع البيروقراطية من أجل المواطن
يعلق المواطنون آمالا وتطلعات كبيرة على كل تغيير وزاري جديد. على أمل أن الوزراء الجدد يجلبون معهم أفكارا ورؤى جديدة وطاقات متحفزة في إحداث تغيير يسهم في التنمية الوطنية، ويحسن من مستوى معيشة المواطن. ولعل الوزير الجديد يمثل نافذة جديدة يطل من خلالها المجتمع على المستقبل، ويرجو خيرا يخرجه من إحباطاته وهمومه اليومية؛ ليبعث في نفسه الأمل والطموح. هل يمكن ذلك؟! إن مثل هذا التحدي يعتمد على قدرة الوزير على التعرف على الجوانب الحرجة في أنشطة وزارته، والأفكار التي يقدمها، والمشاريع والسياسات التي يقترحها، ومدى حرصه على خدمة المواطن وليس الانشغال ببناء مجده الشخصي وتمديد مكوثه في المنصب بالأعمال الشكلية التي هي فقط للاستهلاك الإعلامي.
إن استدامة وقوة تأثير الوزير الإيجابية هي في تنفيذ برامج توازن بين ما هو واقعي وما هو مثالي، وبين الحاضر والمستقبل، وبين الاعتبارات السياسية والكفاءة الاقتصادية. لا شك أن عمل الوزير المجتهد الباحث عن التطوير وإحداث تغييرات جوهرية ليس أمرا سهلا؛ لأن لكل عمل ناجح أعداء، والعداوة تأتي من فقدان البعض مصالحهم. ولذا فإن أي تغيير جذري ينقل المجتمع من حال إلى حال أفضل هو مؤلم حتى للمواطن العادي الذي يكره أن يغير نمط حياته، ويخرج من منطقة الراحة التي اعتادها.
المشكلة التي قد يواجهها الوزير الجديد أن الناس تستعجل النتائج، وتعتقد أن بإمكانه إجراء تغيرات بين ليلة وضحاها وكأنه يملك عصا سحرية. وقد يروق للبعض وصف الوزير بالنشط والمطور بمجرد أنه أحدث تغييرات شكلية مثل تغيير المساعدين، أو إجراء تحسينات على الإجراءات والهياكل الإدارية، أو ترميم المباني وتأثيث المكاتب، ولكن تبقى هذه وسائل وليست غايات. إن تقويم أداء الوزير يجب أن يبنى على مدى تطوير الخدمة كما ونوعا وجودة، واستجابتها لمتطلبات المواطنين. والوزير الذي يتبنى مبدأ الخدمة الباحثة عن المواطن وليس العكس، هو الأقدر على انتشال وزارته من الغرق في العمل الروتيني والاهتمام بالاستحواذ والانغلاق في عملية صنع القرار والانتقال بها إلى ثقافة الانفتاح والتعلم والشفافية والابتكار وتحقيق ما ينفع الناس ويستوفي احتياجاتهم. ليس المهم التباهي بالمخصصات المالية المليارية، أو الإعلان عن المشاريع التي تسمع ولا ترى، أو إن نفذت تأتي مشوهة لتكون الإحصاءات الكمية سيدة الموقف، وليس نوعية وجودة الخدمة على الأرض. فمستوى المعيشة مرهون بمستوى جودة الخدمات الحكومية، المواطنون هم من يحكمون على جودة الخدمات الحكومية، وما عداهم ليسوا سوى مدققين لتطبيق المعايير الفنية التي لا تعني شيئا إذا لم تحقق رضا المواطن! فعلى سبيل المثال، عندما تكون الطرقات غير مستوية، أو الخدمة الصحية متدنية، أو التعليم لا يخرج طلبة متميزين وقادرين على فهم ما يدور حولهم، فثمة مشكلة. إذ لا يهم عدد المشاريع، ولا المخصصات المالية طالما أنها فشلت في إنجاز التأثير النهائي وتحقيق ما ينفع الناس في الأوقات الحرجة. فلو تأخرت سيارة الدفاع المدني عن إطفاء الحريق في الوقت المناسب، فما الفائدة من وجودها؟ وقِسْ على ذلك جميع الخدمات الحكومية. فالعبرة بالنتائج وليست بالوسائل، وربما يعبر المثل الشعبي "ما لي إلا ولد يقرأ" عن الرأي العام في الرغبة في الحصول على الخدمات بغض النظر عن الكيفية.
الإدارة الحكومية ساحرة ببريقها السلطوي، ويزيدها رونقا وجاذبية تدافع أصحاب المصالح من جميع فئات المجتمع بشتى الطرق للظفر بقراراتها التي تحول الورق إلى ذهب يجلب منفعة أو يزيل عقوبة. فالسلطة الحكومية سلطة إجبار بطبيعتها، وليست مبنية على الاختيار كما في القطاع الخاص، ما يجعل المناصب الحكومية عرضة لتجاذبات وضغوط أصحاب المصالح. هذه الضغوط تدفع بالقيادات الإدارية العليا نحو الانهماك في العمل الروتيني اليومي، والتفكير في الحاضر على حساب التطلعات والفرص المستقبلية. ومع مرور الوقت، يأنس القيادي للاسترخاء في ظل الروتين الذي لا يتطلب إعمال العقل والاجتهاد بالتفكير خارج المعتاد، والتحول من حال النمطية المريح إلى التغيير المزعج والمؤلم. هكذا تمارس الأعمال كالمعتاد دون ملاحظة التغيرات في البيئة وما يستوجب عمله، وهذا مكمن الخطورة عندما لا تسبق الخدمات الحكومية تطلعات المواطنين، وتتقاعس عن عمل ما يجب عمله في التوقيت المناسب. إن رؤية الوزير للواقع تتأثر بمن حوله، وفي هذا السياق يجب أن يتذكر الجميع أن الوزير هو في الأول والأخير إنسان له مشاعره وأحاسيسه وتصوراته التي قد تؤثر فيها الحلقة الأقرب له من المساعدين والمستشارين الذين قد يدفعون نحو التطوير وصناعة المستقبل، أو الإغراق في الجزئيات والمصالح الذاتية. ولذا كان اختيار المساعدين وانتقاؤهم بعناية عاملا مهما في نجاح الوزير، إضافة إلى نهجه وأسلوبه القيادي في الانفتاح على آراء وأفكار الآخرين، والعمل بروح الفريق، أو الانغلاق وتبني المركزية ظنا أن ذلك يمنحه المكانة والهيبة.
الوزراء الجدد أمام تحديات كبيرة؛ لأن التغيرات التي تواجه المجتمع سريعة وكبيرة، كما أن المجتمع لم يعد بسيطا، وقضاياه أكثر تعقيدا، وتوقعاته عالية، بل أصبح المواطنون أكثر اطلاعا وثقافة ونضجا عما قبل. هذا ناهيك عن تبدل أنماط الاستهلاك والتحضر، وتأثير العولمة والتنافس الاقتصادي، ومشكلات البطالة والفقر والإرهاب. وهذا يتطلب رؤية وبرنامجا واضحا من كل وزير؛ ليكون مجال النقاش من قبل المجتمع في الوقت الحاضر، وأساسا لتقويم عمله مستقبلا، وتعزيزا لمشاركة المواطنين في إنجاح البرامج التنموية، والسعي في أن يكونوا جزءا من الحل وليس جزءا من المشكلة. ونافلة القول إن الاجتهاد والنيات الصادقة للوزير لا يكفيان، وإنما التطوير المؤسسي الذي يرتقي بالعمل الحكومي، ويحقق تطلعات المواطنين من خلال مشاريع وبرامج تعود بالنفع على المواطن وليس على التنظيم البيروقراطي ذاته.