بين الثورة والعقل
بعد الثورة الصناعية في أوروبا، والثورة التكنولوجية وثورة المعلومات في أمريكا تغيرت الشعوب في إيماناتها السياسية والاجتماعية، وتغير حتى التعاطي السياسي بين الحزب والشارع، فالثورة الصناعية جعلت الصناعيين والحرفيين الذين كانوا يؤمنون بالمبادئ المحافظة أن يتجهوا إلى المبادئ الأكثر ليبرالية لحماية مصالحهم كعمال وطبقة جديدة، وقبل هذا التحول تحولت الأحزاب نفسها من الشعارات الطنانة إلى التعامل مع الواقع وحماية مصالحهم، والنقطة المهمة التي أود الإشارة إليها الآن أن الجمهور الوسطي بين التيارات السياسية بدأ في الاتساع، وبدأ جمهور الأحزاب بالتقلص بطبيعة الحال، وهذا يعود لأمرين: الأول أن ثورة الاتصال ربطت الفرد بمجريات وأحداث بلده والعالم ثانية بثانية، وبوجهات النظر المختلفة، فكوّن المتلقي مخزونا كبيرا من وجهات النظر، وبدأ يعرف الدوافع التي تدعو هذه الجهة لتبني ما تتبناه، وما الذي يدعو تلك الجهة لتبني الموقف المعاكس، الأمر الثاني هو ارتفاع مستويات التعليم، فالجمهور أصبح أكثر تعليما وثقافة، وأصبحت الشهادة الجامعية هي المستوى التعليمي المقبول، بعكس الماضي.
وبلا شك أن الكاتب أو المثقف جزء من المجتمع الذي يعيش به، ويتأثر بمجريات الأمور به، وقد يميل لفكرة دون أخرى، وقد ينتقد مجتمعه، إلا أنه يظل منتجا من إنتاج هذا المجتمع الذي أثر عليه وكوّن مزاجه الفكري ولونه السياسي، والإنسان ابن بيئته التي نشأ بها، فعندما يتجه الجمهور للاستقلالية والبعد عن الإيديولوجيا، أو الانفكاك من الانجرارات التيارية، فإن الكاتب كذلك، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن من واجب الكاتب أو صاحب الرأي معارضة كل التيارات، فهذا ليس طبيعيا أبدا، ولكن الكاتب قد يميل لهذا التيار في أفكاره الاجتماعية، وقد يميل لمنافسه في توجهه الاقتصادي، وليس من واجب أي كاتب بأي حال من الأحوال أن ينتقد كل التيارات المتنافسة لبيان حياديته، فالنقد ليس معركة بين "توم وجيري"، ونقد الكاتب لتيار ما في نقطة ما، ليس معنى هذا أنه يؤيد منافسه في هذه النقطة نفسها.
وهذا ما بدأ بالتشكل في وعي ما بعد الربيع العربي أو الخريف العربي في رأي آخر، فبعد أن كانت بعض الحكومات شرا مطلقا وجدنا أن الفوضى أمر أبشع، وبدأت كثير من الناس في تحليل أوضاعهم بشكل أكثر حكمة وموضوعية. فالديمقراطية التي تأتي بالدم ستولّد دما، وسورية وليبيا خير شاهدين. المهم أن نظرتنا لأوضاعنا وأوضاع من حولنا تغيرت، وأعتقد أنها أصبحت أكثر نضجا ووعيا.
فإذا كان الله في علاه قد أعطانا عقولا حرة، فلماذا نقيدها بأفكار صنعها آخرون، ونتعامل معها على أنها غير قابلة للنقاش أو التعديل أو المراجعة، إن الوعي هو التحرر من الثوابت الحزبية إلى الثوابت العقلائية، والتحول من السير خلف القائد الأوحد إلى السير خلف قيادة العقل والحكمة.