«وما لزماننا عيب سوانا»

لم يكن قائل شطر هذا البيت وهو أبو الطيب المتنبئ، والذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري يعبر بقوله (سوانا) إلا عن قومه في الدولة الحمدانية بالدرجة الأولى، حتى وإن كان قد بلغ بتطوافه الدولة المصرية في عهد كافور الإخشيدي، ومع ذلك فقد رأى السابقون واللاحقون أنفسهم في هذه الـ (سوانا) أيضا.
كانت حدة بصيرة المتنبئ وعمق تأمله في الطبيعة البشرية وتقلبات هذه الطبيعة بتأثير الظروف العامة أو الخاصة، الداخلية أو الخارجية هي جسر الرؤية لما هو جوهري أصيل في الخلق.. كامن فيهم كقاسم مشترك أعظم، تتعذر في الغالب رؤيته إلا في حالة السمو أو الدنو!
شهدت دول الخليج العربية، طفرات تنموية قلبت الحالة الرعوية البسيطة إلى نهم استهلاكي وجشع للثروة.. صار فيها البراق اللامع والثراء الفاقع معايير بديلة في الخطاب الاجتماعي العام للموروث المناقبي في نزوعه المجرد لقيم النزاهة والحياء أو ما يسمى بـ (السمت).. فقد معها المجتمع اتزانه وترنحت الشخصية في لعبة (الغماية) مع نفسها ومغالطة الذات والانغماس في لبس الأقنعة ونزعها مع الآخر للتعمية على المواقف، فاتسعت المساحة بين اللفظ والفعل، بين القول والعمل أو تفاقم بينهما التناقض والتعارض.
أدى ذلك الزخم المادي أيضا إلى إغراق (العقل) في النفعية العابرة وإقصاء (الفكر) لصالح المحسوس وتهميش (العمل) بطقوسه الشكلانية وتغييب (الإنتاجية) بالدخل، وبات واضحا أن غول الاستهلاك نهش بخدره مفاصل ومكونات المجتمع أو كاد.
هذا الفضاء المتهافت في رخاوة الاستهلاك أعلى من قيمة الشكلاني على حساب الجوهري أو المظهر على المخبر، فلم يعد المنزل أو المدرسة أو النشاط أو الترفيه مهمة إلا من حيث الفخامة والسمعة.. فليس مهما أن يكون البيت عمليا اقتصاديا ومنسجما مع هويتنا الثقافية، كما لم يعد ينظر إلى المدرسة إلا من حيث سمعتها الاسمية وما إذا كانت مقصد أبناء الذوات والطبقات الغنية أم لا؟، كذلك النشاط التجاري والصناعي هرول إلى ما هو بسيط سريع الربح يمكن أن تقوم به عمالة أجنبية على قدر أولي من التأهيل لا تتطلب أجورا عالية.. ولم يسلم الترفيه من الوقوع في مصيدة المظاهر.. فتسابق الجميع إلى بلدان العالم، تحت وطأة المجاراة والمنافسة للذهاب والوصول والاطلاع على ما وصل أو ما رآه الآخرون!
إزاء كل هذا الاستغراق في السباحة في محيط الاستهلاك وسيطرة الهامش على المتن.. كانت هناك أجندة استغفال تمارس نشاطها بدأب أناس جادين كانوا يرون في هذا الجو الاستهلاكي فرصة ثمينة تعزز مقولاتهم الجاهزة عن خبث الغرب واليهود والنصارى في صرف المسلمين عن دينهم، بإغراقهم في الترف والملذات والمتع والمظاهر والتنافس فيها.
اليوم استيقظنا على هؤلاء الأناس ليسوا هم "الإخوان" وحدهم، ولكن، كما قال المتنبئ أيضاً (روم من خلفهم روم) استدرجوا أجيالا منا في المدارس والمعاهد والجامعات والأندية، وراحوا يعزفون على (الغيرة) على الدين، وشيئا فشيئا دسوا سموم بروتوكولاتهم ضد الوطنية والعروبة والإنسانية.. وزركشوا لهم تحت مقولة (الحاكمية) تكتيكات الرفض والخروج على أهلهم وذويهم بالقول الغليظ أولا ثم بالعنف لاحقا..
وحين وقعت فؤوسهم في رؤوسنا، ارتج علينا.. تعتعنا هول الصدمة في أن يكون خليجنا المترف مهدا لولادة أبالسة الدم ينحرون بالسكين رقابا بشرية لا خرافا.. حينئذ تلفتنا بحثا عن تعليل.. فلاذ بعضنا بالمؤامرة وبعضنا إلى التعليم وإلى غير ذلك.. وكثيرون منا اعتصموا أمام عجز قراءة المشهد بالتراث، فاستحضرنا نكبات مماثلة وجرجرنا الحاضر للماضي، بينما استعذب كثيرون أيضا التعنيف الحاد للذات أو عبارة (جلد الذات) التي داخت من الاجترار.. وبدا أن قولا من نوع بيت المتنبئ (نعيب زماننا والعيب فينا... وما لزماننا عيب سوانا) يكاد يهيمن بذاته أو بما يشبهه من مقولات على الأذهان.. أما لماذا؟ فلأنه يرشونا بالإحساس في أننا نملك – على الأقل - شجاعة الاعتراف بأن العيب فينا، وهي مع الأسف شجاعة لا تقدم ولا تؤخر في تفسير أسباب ما نعانيه من تخلف وإرهاب، وإنما هي أشبه ما تكون بوخزة دبوس نوجهه لبالون مشاعرنا المحتقنة لتنفيسه ليس إلا!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي