نحو معايير لبيئة العمل التي تضيف قيمة للمنظمات

عندما يسمع المواطن عن فوز أي مؤسسة بمركز متقدم في قائمة أفضل بيئة عمل، فإن أول ما سيخطر بباله هو الأثاث الفاخر، والمكاتب الحديثة، والجدران المكسوة بأجود أنواع ورق الحائط، ذلك أن الشركة أو المؤسسة التي تحقق مثل هذه التطوير في أثاث العمل تحصل دائما على مراكز متقدمة في قوائم أفضل بيئات الأعمال المنشورة، فهل الأثاث هو سر الفوز بقيادة قائمة أفضل بيئات العمل؟ لكن من الغريب أن مقاييس تحديد أفضل بيئة عمل، لا تضع الأثاث ضمن مقاييسها أو على الأقل ضمن أهم مؤشراتها، بل إن تلك المقاييس تشمل موضوعات من بينها الأساليب الإدارية والقيادية، الدور الوظيفي وتطوره، الثقافة العامة وقيم المنشأة، برامج التدريب والتطوير، التواصل الداخلي وتبادل المعلومات، الرواتب والأجور، العلاقة مع الرئيس المباشر، إدارة الأداء والحوافز والمكافآت، سياسات وإجراءات الموارد البشرية. وهكذا فإنه يبدو أن الأثاث والتكييف والجدران ليس لها علاقة ببيئة العمل، فلماذا إذا نعتقد بوجود تلك العلاقة بينهما؟
لازال هناك من يعتقد أن بيئة العمل لها علاقة مباشرة بالرضا الوظيفي، هناك مدرسة علمية تقود هذا الاتجاه، بمعنى أن بيئة العمل الجيدة سوف تقود إلى رضا وظيفي، لكن الرضا بشكل عام هو جملة مشاعر وأحاسيس للموظف تجاه وظيفته وتجاه مؤسسة العمل ومن الصعب قياس تلك الأحاسيس بشكل مباشر. ولذلك فإن أي دراسات تستهدف قياس رضا العمل غالبا ما تقع في فخ عدم الموضوعية، بمعنى أن ينحاز الدارس أو الباحث إلى مجموعة من الموضوعات يحاول إثبات أنها تقيس الرضا الوظيفي، كما أن معظم الرؤساء في الشركات والجهات يقومون بجهود ذاتية تعمل على رفع مستوى الرضا الوظيفي من خلال القيام بعدد من الإجراءات - وفق آراء شخصية بحتة - ومن بينها إنفاق الملايين على الأثاث وتغير شكل المنظمة من الداخل على أساس أن ذلك سوف يخلق بيئة عمل جيدة وبالتالي يرتفع الرضا الوظيفي في ظنه. وهكذا يبدو السؤال المنطقي، هل هناك علاقة مثبتة علميا بين بيئة العمل والرضا الوظيفي؟ وكم حجم تلك العلاقة؟
نعتقد أن بيئة العمل تساعد في زيادة الإنتاج بمعنى أن الموظف إذا وجد بيئة عمل جيدة ومهيأة ومهنية فسوف يشعر بأنه مرغوب فيه، وهذا بدوره يعزز من رغبته في العمل والإنتاج. لكن الرضا الوظيفي أكبر من مجرد شعور الموظف بأنه مرغوب فيه، بل يتعدى ذلك إلى شعوره بالانتماء أيضا وهذه تحتاج إلى شعور بالوحدة مع المنظمة وأنه شريك فيها، بمعنى أن حياته تصبح أفضل إذا نجحت المنظمة وحافظت على ذلك النجاح، هذا الارتباط بين حياة الفرد وحياة مؤسسته هو معنى الانتماء المنشود، لكن يبقى الرضا الوظيفي موضوعا أكبر من ذلك أيضا، فالكثير يشعر بهذا الانتماء للمنظمة - خاصة الحكومية منها - ويبقى مرتبطا بها حتى بعد التقاعد، لكن مع ذلك فإن أي سؤال مباشر عن الرضا الوظيفي يعطيك انطباعا مختلفا عن موضوع لانتماء الذي يشعر به، كما أن من الصعب إثبات أن ذلك الانتماء قد انعكس على أدائه ورضا المواطنين عن خدماته.
اتجاهات إدارية حديثة تؤكد أهمية وضمان شعور الفرد بإنسانيته داخل المنظمة وهذا يتطلب وجود مجموعة من القيم والمبادئ والأخلاقيات التي تعد أكثر أهمية حتى من رفع الأجور في خلق رضا وظيفي، فشعور الإنسان بهذه العلاقات الإنسانية داخل المنظمة وأن همومه ومشكلاته الشخصية محل اهتمام ورعاية وأن المنظمة تسهم معه في حلها كل ذلك يعزز من رضاه الوظيفي وتنعكس الوظيفة على حياته الشخصية بشكل أفضل مما لو أنها تقوم بالعكس، لذلك أصبحت موضوعات مثل التواصل داخل بيئة العمل، ومراعاة الجوانب الشخصية بين العاملين في المؤسسة حتى الرؤساء والقادة تطور وتعزز بيئة العمل. فالعمل تحت الضغوط النفسية له آثار سلبية على الرضا الوظيفي وبالتالي دافعية العاملين نحو العمل، وقد يتسبب في ترك العمل خاصة من أصحاب الكفاءات وكثرة الغياب من الأقل كفاءة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تدني مستوى إنتاجية مؤسسة العمل، وتدهور سمعتها ومكانتها.
وهكذا نجد أن قياس الرضا الوظيفي، أمر شاق جدا، وكذلك قياس بيئة العمل، إذا كنا نعتقد أنها ذات علاقة بالرضا الوظيفي وسيصبح أي قياس لها أمرا مثيرا للشك العلمي وتبقى قضية جديلة بحتة لتأثرها بالعوامل النفسية والشخصية سواء للباحث أو حتى للخاضعين للتجربة. لكن هناك مدخل جديد كما في موضوع بيئة العمل، ويمكن توضيحه من خلال الإجابة على السؤال: هل تخلق بيئة العمل الجيدة قيمة مضافة للمنظمة؟ بمعنى آخر هل تسهم بيئة العمل الجيدة في خلق قيمة يشعر بها المستفيدون من منتجات وخدمات المنظمة وبالتالي تجعلهم يقبلون على منتجات الشركة أو المنظمة وخدماتها ويدفعون مقابل تلك البيئة الجيدة التي أنتجت هذه المنتجات؟ هذا يحول القضية من قضية قياس رضا الموظفين إلى قياس وتحليل سلسلة إنتاج القيمة التي تقدمها المنشأة، وهل لهذا هناك مكان لبيئة العمل. فبيئة العمل الجيدة إذا لم تجد انعكاسا لها في قيمة المخرجات فإن ما نقوم به هو مجرد هدر للموارد فقط. بمعنى آخر إذا كنا نقارن بين مؤسستين في نفس الصناعة حيث إن المنظمتين تنتجان نفس الخدمة أو السلعة، وإحداهما تنفق الكثير جدا على تطوير بيئة العمل بينما الأخرى تنفق أقل من ذلك بكثير والمنتج النهائي لكلتيهما متقارب جدا حيث لا يشعر المستهلك و لا يقبل أن يدفع في مقابله، فإن ما تقوم به المنشأة الأكثر إنفاقا لم يضف شيئا حقيقا لقيمتها، وبالتالي فإن ما أنفقته يعتبر هدرا لا محل له.
وكمثال، فمن الصعب قبول أن تنفق إحدى الجهات أو الشركات الملايين على تغير الأثاث والجدران واستقطاب موظفين برواتب ضخمة وبدلات وتعي أن كل ذلك من أجل تحسين بيئة العمل، بينما لا يشعر المواطن بأي تحسن حقيقي في خدمات ومنتجات هذه المؤسسات يوازي كل ما تم إنفاقه، هذا ما نقصده بالقيمة، يجب أن تخلق بيئة العمل قيمة يشعر بها المستهلك. فمن الغريب حقا أن تحصد إحدى الجهات المراكز الأول لقائمة أفضل بيئة عمل بينما المواطن يشتكي من خدماتها، ومن الغريب أن تعمل وزارة على دفع مبالغ ضخمة للموظفين والمباني بينما المواطن يئن من طريقة التعامل معها.
وإذا كانت قائمة أفضل بيئة عمل مشروعا تنمويا فعلا، فيجب أن تسهم في رفع قيمة الخدمات التي تصل للمواطن والمستهلك من خلال الإسهام في تطوير بيئة عمل تحقق رفعا في معدل الإنتاجية للموظف، وهذا معناه تطوير مقاييس تتمكن من ضم القيمة المضافة لبيئة العمل، وهذا معناه أن نقوم بالمزيد من الدراسات والبحث عن معايير دولية أكثر تطورا تأخذ في اعتبارها القيمة المضافة لبيئات العمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي