الأخلاق.. صوت المجتمع في دواخلنا

سنحاول في هذه المقالة أن نبرز للقارئ الكريم وجهة نظر علم الاجتماع للمسألة الأخلاقية، فهو علم يركز على الجانب الخارجي على حساب الجانب الذاتي، أي أنه يرى الأخلاق كإكراه اجتماعي وإملاء ثقافي. ولمقاربة هذه النظرة سنبدأ بالمثال التالي:
هب أن طفلا ولد حديثا قد تم التخلي عنه لسبب من الأسباب في غابة لوحده، فمصيره الأكيد هو الموت، إما لأنه سيفترس أو يقضي نحبه جراء الجوع أو ينهك بالبكاء فيهلك، أو لغير ذلك من الأسباب الممكنة. وهذا يدل على أن خلاص الفرد وضمان بقائه مرهون بوجود الكبار ولو واحد على الأقل، يقوم بتقديم الحماية اللازمة والرعاية الكافية له، وفي الغالب الأعم تقوم الأسرة المشكلة من الأبوين بهذه المهمة الجسيمة.
إن الأسرة إذن هي النواة الاجتماعية الأولى التي تلعب الدور الأساس في البقاء، وذلك بتوفيرها دعمين أساسيين للطفل: الأول مادي يكمن في المأكل والمسكن والملبس.. والثاني وهو الخطير دعم رمزي ومعنوي يتجلى في تقديم خبرات الأجداد الموروثة وتقنيات توفير الطعام وكل الإجراءات الكفيلة بضمان البقاء البيولوجي، والأهم في هذا الدعم الرمزي هو تزويد الفرد بالتصور الكامل للوجود: تصور للمقدس وللمدنس تصور للمقبول وللمرفوض يكون بمثابة البوصلة الوجودية والحياتية الملازمة والمؤطرة لتحركات الفرد. وما دام أن الفرد يلقى هذه الخدمة المهمة من طرف المجتمع، فالأمر لن يكون دون ثمن، فهو مطالب بإعادة إنتاج النموذج الاجتماعي المحصل عليه مع الأجيال اللاحقة والويل له إن قرر الخروج عنه، فذلك سيكون نكرانا للجميل غير مغتفر، فالمجتمع لديه أدوات العقاب القاسية لكل من خرج عن ما تم تسطيره من حدود وقواعد قد تكون مادية كالسجن والنفي والتمثيل أمام الناس، وقد تكون معنوية كالتهميش والإقصاء والسخرية، فيكفي مثلا لشخص أن يخرج على الناس بلباس الفراعنة حتى تجدهم يضحكون وينظرون إليه شزرا ويشيرون إليه بالأصابع، فالمجتمع يمارس سلطته وقهره على أفراده عن طريق التنشئة الاجتماعية وهي تلك العملية التي يتم فيها نقل الموروث الثقافي إلى جوف الطفل ومحاولة إقحامه في أعماقه إما ترغيبا أو ترهيبا. فعندما يسافر المرء إلى دولة أجنبية أكيد سيحمل معه حقيبة أغراضه، لكنه سيحمل معه أيضا حقيبة أخرى متماهية وملازمة له، إنها حقيبة المجتمع في جوفه والتي لن تفارقه أبدا فهي جزء لا يتجزأ منه، فتصور معي أن هذا المسافر هو طالب عربي ومسلم قد اتجه للدراسة في كندا وتمت دعوته من طرف الأصدقاء لحضور حفل، فقبل الدعوة، فوجد الخمر ولحم الخنزير موضوعا في وجبة الغذاء، فاعتذر للجميع رافضا الأكل، فهذا الرفض هل هو رفض ذاتي وخاص أم هو إملاء المجتمع القابع في جوفه والساكن في كيانه حد التطابق؟ بالطبع علماء الاجتماع يختارون الجواب الثاني.

#2#

يصف علماء الاجتماع الكائن البشري كونه "بيو ثقافي"، ويقصدون بذلك أنه يحتوي على عناصر طبيعية تتسم بالعموم والشمول لدى كل البشر ولها صلة بجذره الحيواني لكن هو ينعتق وينفلت من ذلك بمكونه الثقافي الذي سمته التغير والتعدد بتعدد الشعوب، بعبارة أخرى يولد الفرد وهو كالخام أو المادة الأولية، أي يولد باستعدادات أصيلة ومتجذرة لا يختارها المرء، بل هي تدخل في جبلته، فهو مفطور عليها، وهذه هي طبيعته وهي تتسم بكونها مشتركة بين بني البشر بل نتقاسم الكثير منها مع مملكة الحيوان، فكوني أجوع ليس الأمر أمري بل الأمر للغريزة، والجوع يمس كل الناس بل كل الحيوانات. ونفس الأمر يقال مثلا عن الجنس. لكن الإنسان لا يكتفي بهذا الجانب بل لابد له من جانب الثقافة لكي تكتمل إنسانيته، فالوجه الطبيعي ناقص دونما وجهه الآخر الثقافي، ففي مثال الجوع السابق نجد أنه يؤطر ويوضع في قالب محدد يمليه المجتمع الذي ننتمي إليه، فلسد هذا الجوع قد نأكل بالشوكة أو العيدان أو باليد مباشرة، أما في مثال الجنس الذي هو تزاوج، يصبح مباشرة وبقوة الفعل الثقافي زواجا أي خاضعا لمراسيم وطقوس ومعايير يفرضها المجتمع والكل يعلم أنها متضاربة بحسب نوع المجتمع الذي ينتمي إليه الفرد، ومن هنا لا يمكن البتة الفصل بين المجتمع والثقافة .أما إذا تحدثنا عن اللغة فالأمر يصبح جد واضح، فكل إنسان يولد باستعدادات أولية للكلام فهو مزود بحبال صوتية وباحة مخصصة للكلام في الدماغ، فيأتي المجتمع في عملية احتواء ثقافي فيلتف على هذا الخام في سيجة إما عربية أو إنجليزية أو فرنسية أو إسبانية. والأمر نفسه يقال عن الدين، فالمرء يولد وله القابلية للدين، فكل إنسان يولد إلا ويبحث عن المطلق وعن الكائن اللامتناهي، فما من طفل إلا وتجده يسأل عن تلك الألغاز الوجودية الأزلية مثل الله والمصير والموت والمعنى في الحياة. فيستغل المجتمع هذا النزوع الأصيل في الإنسان ليعلبه ويؤطره وفق الدين الذي يرتضيه، فنجد المرء إما مسلما أو يهوديا أو نصرانيا أو بوذيا. فتصور معي أن طفلا ولد من والدين عربيين ومسلمين، لكن لقدر معين تم تبنيه وهو لا يزال في شهوره الأولى من طرف متزوجين ألمانيين ومسيحيين كاثوليكيين، فماذا سيكون وضعه عندما يبلغ 18؟ بالقطع ستكون لغته هي الألمانية ودينه المسيحية وإذا ما كبر وقرر العودة إلى جذور الوالدين البيولوجيين، فلا محالة سيجد نفسه غريبا وحتى إذا ما قرر الدخول في الإسلام، فلن يكون بالشاكلة نفسها كما لو تربى على الإسلام من الوهلة الأولى. إن هذا المثال يظهر قوة المجتمع وإكراهه لنا وتشكيله لشخصيتنا وفق نمطية محددة ترهن مستقبلنا الفردي كليا.
لقد قدمت هذه المعطيات لكي نبرز كيف أن المرء يولد كعجين أولي ما يلبث أن يوضع في قوالب يصنعها المجتمع بحيث يصعب عليه تجاوزها، ولتوضيح الأمر أكثر نقدم التشبيه التالي: إذا أردنا تشكيل قطع للبناء، فما علينا مثلا إلا أن نأخذ الأسمنت ونخلطه كالعجين وبعدها نضعه في قالب على شكل متوازي المستطيلات، وننتظر الوقت الكافي حتى يصبح الأسمنت صلبا، آنذاك لا يمكن نهائيا إعادة تشكيل القالب من جديد اللهم بالتكسير والهدم وهو ما سيشوه الحصيلة كليا. هذا ما يحصل للإنسان بالضبط، فهو كالعجين الخاضع لسلطة المجتمع الذي يختار له نمط ونوع القالب الذي سيسير عليه ولن يخرج عليه قيد أنملة، وهو ما يفسر لنا كيف أننا لا نقدر على تجاوز عاداتنا وديننا وتقاليدنا عندما نكبر إلا بمشقة الأنفس وبطريقة هجينة، يكون فيها الكثير من التشويه لأصولنا الأولى.
كل هذا سيدفع علماء الاجتماع إلى التأكيد على أن الواجب الأخلاقي لا يصدر من العقل كما قال الفيلسوف كانط بل يصدر عن سلطة خارجية تتجاوز الفرد هي سلطة المجتمع فإذا أخدنا المدرسة الاجتماعية الفرنسية وخاصة إميل دوركايم ( 1858/1917 ) فالواجب الأخلاقي عنده ينشأ من المجتمع الذي يضع حدودا فاصلة بين النافع والضار بين الفضيلة والرذيلة بين الخير والشر وما على الفرد إلا التمسك بالأول وتحاشي الثاني، فالمجتمع هو مصدر قيمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا فهو من يضع الميزان والمعيار الذي من خلاله نصنف الأعمال ونرتبها.
يرى دوركايم أن ما يعتمل في الفرد من ضمير أخلاقي ما هو إلا انعكاس وصدى ضميره الاجتماعي الذي تم امتصاصه واستدماجه عن طريق التنشئة الاجتماعية وهو ما يجعل من المجتمع سلطة متعالية على الفرد ومتجاوزة له. يقول دوركايم "عندما يتكلم الضمير فينا فليس نحن من نتكلم بل المجتمع" فحين يندفع الفرد نحو إقرار خيرية سلوك معين قد يعتقد واهما أنه هو من استطاع القيام بهذا التصنيف، إلا أن الأمر في حقيقته نابع من سلطة خارجية عليه هي سلطة المجتمع الذي تفوقه، فكل فرد مهما كان، إلا ويحمل في جوفه ثقافة المجتمع كلها، فالمجتمع يعمل على وضع أفراده في إطارات وقوالب ومن تم تكوين شخصيتهم وتذويبهم إلى درجة لا يستطيعون معها الفكاك.

أستاذ مادة الفلسفة ـــ المغرب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي