هل الحل في المزيد من برامج الأعمال؟
يعيش رواد ورائدات الأعمال والراغبين ببداية عمل تجاري في السعودية عصراً استثنائياً من ناحية الدعم الحكومي والبرامج شبه الحكومية والخاصة، خصوصاً في السنوات الخمس الماضية. هذا الدعم تمثل في إنشاء صناديق أو برامج لتسهيل توفير رأس المال الجريء والاستشارات والتدريب وبعض الخدمات اللوجستية المساندة لبدء المشروع. هناك ما يزيد عن 30 جهة مختلفة تقدم هذه الخدمات أو بعضها منها بنك التسليف السعودي، برنامج كفاله، الغرف التجارية، المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، برامج عبد اللطيف جميل، صندوق تنمية الموارد البشرية، ناهيك عن البنوك والمستثمرين الأفراد وصناديق الجامعات الاستثمارية وكذلك المؤسسات الاستثمارية العاملة في رأس المال الجريء. كما يصاحب عمل هذه المؤسسات والجهات هالة إعلامية ضخمة تعكس الاهتمام المتزايد بريادة الأعمال في السعودية.
لا شك أن الدراسات والأبحاث أثبتت أن ريادة الأعمال تسهم في حل البطالة وتوفير فرص حياة كريمة، كما تسهم بنقل التقنية وتحفيز ودعم الابتكار. ولا شك أيضاً أنها أثبتت أن لريادة الأعمال فوائد مجتمعية واقتصادية مثل تنويع مصادر الدخل القومي، خلق بيئة تنافسية، وتقليل الجريمة، كل هذا لا خلاف عليه لكن السؤال الذي أود تسليط الضوء عليه هو: هل سنجني من هذه البرامج الفوائد المرجوة؟ هل تم استغلال هذه البرامج والموارد الاستغلال الأمثل في دعم ريادة الأعمال في السعودية؟ هل تستطيع هذه البرامج والصناديق المساهمة تنويع مصادر الدخل القومي مثلاً؟ والسؤال الأهم: هل ما زلنا بحاجة إلى مزيد من الدعم وبرامج ريادة الأعمال في السعودية؟
وحتى نجني ونعظم من استفادتنا من هذه الفوائد فيجب أن نلتفت لأمور جوهرية أخرى تسهم في دعم ريادة الأعمال في السعودية وسأختصرها بالنقاط الثلاث التالية:
1 - التعليم: تشير العديد من الدراسات إلى أن التعليم من أبرز المؤثرات على الشخصية الريادية، وليس المقصود بالتعليم هنا الدورات التدريبية "في كيف تكتب خطة لمشروعك؟" أو "كيف تعمل دراسة جدوى؟" هذا النوع من التعليم والتدريب مهم، لكن ما قصدته والأهم هو التعليم العام الذي يبني الشخصية، يليه التعليم الجامعي الذي يصقلها، فحسب دراسة قام بها "نيلسون ريشارد" من جامعة كولومبيا عندما قام بمقارنة الأنظمة المساندة للابتكار والإبداع لـ17 دولة من الدول الصناعية، وجد أن النظام التعليمي ذا الجودة العالية والذي يرتكز على أساس التفكير والإبداع تكون مخرجاته أكبر قابلية على الابتكار وإنتاج طرق وحلول لحاجات المجتمع.
يتخرج طالب الثانوية في السعودية هذه الأيام في الغالب بمجموعة قليلة من المهارات، وإذا تمت مقارنة خريج الثانوي السعودي بنظيره من دول أخرى، نجد أنهم في الغالب يفتقرون– بشكل نسبي - بما يسمي بـ"الكفايات الأساسية" وهي مجموعة من الصفات والعادات الشخصية الملائمة لسوق العمل. بحسب دراسة للدكتور محمد الذبياني عن الكفايات الأساسية التي يجب على خريج الثانوي في السعودية أن يتقنها هي "الأمانة، الانضباط، تقدير قيمة الوقت، العمل بروح الفريق، المقدرة على التواصل الاجتماعي مع الآخرين، القدرة على القراءة والكتابة، واستخدام الحاسب الآلي"، وأحب أن أضيف تحمل المسؤولية وحب المبادرة. لا أحد يستطيع أن يجزم أن هذه الصفات والعادات تنتج رجل أعمال ناجحاً، بقدر ما هي تؤهل شخصية قادرة على التعامل مع متغيرات السوق.
إنني لا أدعو هنا إلى أن يبدأ الشخص مشروعه التجاري بعد الثانوية أو حتى بعد الجامعة مباشرة، حيث إنني أؤمن أن الخبرة لها دور كبير في نجاح رواد ورائدات الأعمال كما أشارت عدد من الدراسات والأبحاث. إنما أردت أن ألفت الانتباه إلى أن هناك دوراً ضخماً يجب أن يلعبه التعليم العام في تهيئة وبناء شخصية قادرة على التعامل مع المتغيرات، ومستعدة لتحمل المسؤولية.
هذه الرسالة موجهة للتعليم الجامعي أيضاً، ففي الجامعة يصقل الشخص مهاراته، ويطور معارفه ومكتسباته، وهو الوقت الأمثل لعمل تجارب أو ممارسة مواهب. كثير من الجامعات السعودية لديها الآن معاهد أو صناديق أو شركات استثمارية لدعم طلابها بالخبرة وبرأس المال الجريء وغيرها من الخدمات ليتخرجوا رواد ورائدات أعمال، وهذا مرغوب في ظروف معينة - عندما يكون الطالب قد طوّر مهارة معينة وتدرب عليها فترة من الزمن-، لكن الأفضل برأيي أن توجه الجامعة مواردها لتهيئة البيئة المناسبة التي يستطيع من خلالها الطالب تطوير شخصيته ومعلوماته، ومهارته ويتدرب عليها، ثم تفسح له المجال لكسب خبرة عملية بعد التخرج ويستطيع بعد ذلك أن يلجأ إلي جامعته التي تخرج منها -عن طريق رابطة الخريجين أو غيرها - ليحصل على الدعم والخبرة ليدخل لعالم ريادة الأعمال حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة نجاح رواد الأعمال من ذوي الخبرة أعلى من غيرهم.
2 - البنية التشريعية والقانونية: إنني من المؤمنين بالاقتصاد الحر والسوق المفتوحة مع تدخل محدود من الدولة لوضع تشريعات تضمن الحقوق والتساوي بالفرص وتحافظ على المصالح المجتمعية والاقتصادية الكبرى. يظن كثير من المهتمين بريادة الأعمال أن سن القوانين وزيادة البرامج التي تحفز المزيد من رواد ورائدات الأعمال ستدعم بالضرورة ريادة الأعمال وتفيد الاقتصاد والحقيقة ليست بالضرورة كذلك، حيث أشارت دراسة أعدها "سكوت شين" في مجلة اقتصاديات المشاريع الصغيرة أن كثيراً من التشريعات والدعم قد يذهب لإنتاج مشاريع عادية لا تعود للاقتصاد بالنفع المتوقع، ولا على التوظيف بالرقم المأمول، إنما تكلف الدولة من ميزانيتها أكثر مما قد تقدم من خدمة. إذا أضفنا لذلك نسبة الفشل في هذه المشاريع – حسب تقديري الشخصي - قد تصل لما يزيد عن 70 في المائة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن نسبة فشل المشاريع التجارية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية هي نحو 60 في المائة في الخمس السنوات الأولى من عمر المشروع.
إذن ما الذي نحتاج في البنية التشريعية والقانونية؟ نحتاج أولاً إلى تفضيلات لمشاريع ذات قيمة مضافة للبلد وللاقتصاد، وهذه التفضيلات قد تكون مادية، معنوية، لوجستية، وغيرها. إن أكثر ما يفتقر إليه اليوم الوطن هو مشاريع ذات قيمة تنافسية، ومردود اقتصادي يسهم في تنويع مصادر الدخل بالاقتصاد الوطني. كما أننا بحاجة إلى تنظيم للتجارة الإلكترونية، وإلى قانون للإفلاس يحفّز للدخول في المشاريع ذات القيمة المضافة حتى وإن كانت تتضمن مخاطرة، ثم إننا بحاجة إلى سهولة أكثر في تسجيل المنشأة، وأخذ الرخص اللازمة وقد خطت وزارة التجارة خطوات مشكورة في هذا المجال، وكذلك نحتاج إلى فاعلية أكبر في فض النزاعات والخلافات، وقد يكون أكثر ما نحتاج العمل عليه هو نظام للعمل والعمال وتشريعات حازمة ضد الفساد.
3 - البنية التحتية: تنعم السعودية بشبكة من الطرق السريعة التي تربط بين المدن، كما أن المدن وحتى أغلبية القرى والهجر تزخر بالطرق المعبدة والكهرباء وكذلك الإنترنت والجوال، إذن ما الذي نحتاجه في البنية التحتية لندعم رواد ورائدات الأعمال؟
هناك العديد من الاحتياجات في البنية التحتية التي تحتاج إلى الاهتمام بها، فمثلاً، تمثل التجارة الإلكترونية سوقاً واعداً والتوقعات بنموه خلال السنتين المقبلتين بما يزيد عن 50 مليار ريال حسب تقرير لجريدة الشرق الأوسط، إلا أن سوق التجارة الإلكترونية يفتقد إلى بوابه الدفع الإلكتروني الفعال التي يدعمها.
في الوقت نفسه، تتوسع المدن بشكل كبير، وتزداد الحاجة للتمديدات والصرف الصحي وتوسيع الطرق وغيره، لذلك تلجأ بلديات المناطق إلى مشاريع الحفر وربما إغلاق الطرق فترة من الزمن لعمل هذه المشاريع. على سبيل المثال، هناك مشروع حفرية للصرف الصحي وتحسين الأرصفة والإنارة في شارع الأمير محمد بن عبد العزيز (التحلية) بالمدينة المنورة، وللحفرية الآن ما يزيد عن الستة الشهور، وأصبح من الصعب جداً الوصول لبعض المحلات، حتى اضطر بعض المحلات التجارية للإغلاق. مع علمي ويقيني التام بفائدة مشروع الإنارة والصرف الصحي لمجتمع المدينة المنورة، إلا أنني اعتقد أنه بالإمكان عمل خطط أفضل لمشاريع الإصلاح في البنية التحتية بما يتلاءم مع مصالح أصحاب المشاريع التجارية. وينطبق هذا الحال على كثير من مناطق المملكة.