الخليج ليس إلا نفطا

في كثير من الحوارات والنقاشات والمقالات التي يعبر فيها المثقفون الخليجيون عن هويتهم الوطنية وعن وزنها النوعي وتميزها فإنهم غالبا ما يشتطون في الدفاع عن أهمية خليجهم بعبارة مكابرة هي: أن الخليج ليس نفطا.
ولست أدري كيف تحول هذا الامتياز الاقتصادي الذي نجم عن الثروة النفطية إلى ما يشبه "العقدة" لدى بعض مثقفي الخليج؟ كأن النفط لم يكن مصدر التحولات الكبرى التي شهدتها بلدان الخليج؟ ولا أن عوائده هي ما قلب الصحاري الجرداء إلى واحات غناء وقراه وبلداته المتواضعة إلى حواضر عصرية بأحدث الطرز والخدمات، وملأت ربوعه مصانع وصروح علم وخدمات وجعلت أبناءه يتمتعون بتنمية حققت لهم رخاء العيش ونعمة الأمن والاستقرار؟ على حين بددت دول عربية وغيرها ثرواتها النفطية في حروب أو صراعات دموية على السلطة!
وباستثناء المكانة المُشرِفة والسامية للأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ومكانة الإنسان على هذه الأرض وما له من قيم ومناقب أخلاقية كريمة، وهي أبعاء أساسية بكل تأكيد ولا يختلف حولها أحد، فإن هؤلاء المصابين بعقدة النفط بالمقلوب يغالطون الحقائق والواقع .. فقبل النفط لم يكن الخليج شيئا مذكورا مثله مثل بلدان فقيرة الموارد موجودة فقط على خريطة الكرة الأرضية لكن لا حول لها ولا قوة ولا أثر لها ولا سمعة إلا في حساب الجغرافيا وتعداد الشعوب. لهذا لا بد من القول بصراحة موضوعية: إن الخليج ليس إلا نفطا .. ولا داعي للمماحكة أو المكابرة والتغرير بالذات في التغني بما لم يكن له الدور في الحضور على صعيد المشهد العالمي اليوم مهما قالوا عن أهميته وتميزه، كالإرث الثقافي أو الحضاري وكنوز الحكايات ومعالم الآثار.
إن هؤلاء العازفين على تلك المؤشرات التاريخية لا يقولون في الواقع شيئا جديدا، ولا يدفعون بحجة قوية .. فلم يقل أحد بعكس ذلك، لكن الإشارات التاريخية ظاهرة عالمية ليست امتيازا خليجيا ولا حكرا عليه، فحيث كانت مستوطنات بشرية فإن هناك كنوزا من الآثار والمعالم الحضارية والحكايات والأساطير .. من صقيع الإسكيمو إلى الصحاري الاستوائية في إفريقيا أو قل من القطب للقطب.
كان الخليج قبل النفط عالما مجهولا إلا من الرحالة والمستكشفين ثم المستعمرين الذين جاءت بهم رائحة النفط نفسه.. لم يكترث العالم بكنوزه الثقافية من تراث شفهي أو آثار، ولا حتى بثروة اللؤلؤ التي كان غواصوه يكدحون على شواطئه من أجلها.. بل لم تقو تلك الثروة الأولية على إحداث أي تغير يذكر في حياة الخليج.
بلدان العالم كلها كانت نتاج ثرواتها الطبيعية.. فليست أمريكا سوى ذهبها ونفطها ومعادنها وأنهارها وأرضها الخصبة.. وليست روسيا والصين أيضا سوى ما يشبه ذلك، وكذلك أوروبا .. وبالتالي فالخليج من هذا المنظور ليس إلا نفطه حتما، فقبله لم يكن سوى بيداء وشواطئ وقبائل موزعة بين الرعي والغوص وحرف بدائية في قرى زهيدة.
تلك هي الحقيقة الصرفة... مهما حاول مثقف أن يقفز عليها ويتجمل بسواها أو يكابر ويدير لها ظهره.. فمن يقرأ ما رواه ودونه الأجداد سيقشعر بدنه من أهوال ما عاشوه من جوع وسطو وخوف ومرض، أكلوا فيه الجيف واكتووا بالنار وتاهوا وهلكوا في الزمهرير أو الرمضاء .. فعن أي خليج يتحدثون؟ عن الإنسان فيه؟ نعم .. لقد كانت لإنسانه شكيمته وجلده وصبره وفعله للتشبث بالحياة على أرضه، مثل غيره من البشر أيضا، لكنها كانت حياة شظف وبدائية .. النفط وحده صعد بالخليج في معارج التقدم وجعله قوة اقتصادية عالمية وجعل لأهله وزنا نوعيا وحضورا معتبراً بين الأمم .. وبسببه صار الخليج في فم وسمع وبصر الدنيا.. والذين يصرون على المغالطة لا يحسنون صنعا بأنفسهم ولا بخليجهم.. ولا يكادون يختلفون عن أولئك العامة من الناس ممن يرون حل كل معضلة بزيادة الإنتاج لمزيد من الإنفاق.
إن الأولى بهؤلاء (اللانفطيين) أن يصعدوا في حميتهم وغيرتهم ودفاعهم عن الخليج ليس بالقفز على حقيقة فعل النفط وفاعليته المشرفة، إنما ليقولوا لنا كيف يمكن للخليج أن يدير دفة هذا النفط كي يصبح ثروة مستدامة عدتها وعتادها قطاع إنتاجي عريض عملاق يتدفق صناعة وتقنية وعقلا خليجيا خلاقا لا غنى للعالم عنه؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي